المقتولون بالردة


محمد حبش

لا يتناول هذا المقال مسألةَ حد الردة من الجانب التشريعي والفقهي، فقد كتبت مطولًا في ذلك، ومن المؤكد أن حد الردة لا وجود له في القرآن على الإطلاق مع أن الردة ذكرت في القرآن الكريم عشرات المرات، وإنما استدلّ المتشددون برواية عكرمة: “من بدل دينه؛ فاقتلوه”، وعكرمة مولى ابن عباس، وهو رجل متهم بشكل مباشر بالكذب، على الأقل من قِبل الصحابي الجليل عبد الله بن عمر، والإمام مالك بن أنس، وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عباس، وكلامهم فيه كثير، أهونه قول الإمام مالك بن أنس لمولاه نافع: “لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس”.

ولكن السؤال هنا في مكان آخر.. وهو: هل طُبق حد الردة في التاريخ الإسلامي؟ وهل كان المفكرون الأحرار بالفعل يعيشون رعاب القتل وسفك الدم لمجرد آرائهم؟

يحلو لنا نحن -الذين نتحدث عن العقل في مواجهة النقل- القولُ دومًا إن حد الردة سيف مسلط على رقاب الأحرار، وإن التاريخ الإسلامي طافح بالمقتولين على الرأي والفكرة، وإنه سجل من ظلام وقهر، وإن ما افتراه الفقهاء من حد الردة جعل تاريخنا الإسلامي “محاكم تفتيش” لا تنتهي. والحقيقة أن هذا الوهم غير واقعي وهو مسيء للحضارة الإسلامية، ولا يمكن إقامة البرهان عليه إلا بقدر كبير من الاستهتار بالحقيقة التاريخية. ولإدراك هذه الحقيقة، فإن علينا أن نميز بين ثلاثة أنواع من القتل بالردة:

الأول: ما قامت به الدولة الإسلامية تاريخيًا بناء على فتوى الفقهاء بالردة.

الثاني: ما قامت به أشباه الدول من الحركات الخارجية على الدولة تكفير وقتل، وهو ما نشاهده اليوم في الحركات الراديكالية العنيفة.

الثالث: القتل السياسي الذي استخدم في لائحة اتهامه وصف المقتول بالزندقة أو الردة أو الكفر.

ومن المؤكد أن القتلى من الصنف الثاني والثالث كثير، ويمكن جمع المجلدات الكبيرة من هذا النوع، وهو في حضارتنا لا يختلف في شيء عن الحضارات الأخرى للأمم التي عاشت في العصر الوسيط، وربما كان أقل مما شهدته تلك الدول.

ولكن القتلى من الصنف الأول قليل بالفعل، ومن العسير أن تستكمل أسماء عشرة مقتولين في التاريخ الإسلامي كله من المفكرين أو الأحرار الذين قُتلوا بسبب أفكارهم الإصلاحية في الدين، وأشهرهم بالطبع الجعد بن درهم في العصر الأموي، وابن المقفع والحلاج والسهروردي المقتول في العصر العباسي.

ومع ذلك فقد كانت السياسة حاضرة في هذه المقاتل، ولا يوجد قتل واحد منها مبرؤ من مكر السياسة وغاياتها، بل إن قتل ابن المقفع كان انتقامًا شخصيًا ووحشيًا من سفيان بن معاوية بن المهلب، وقتل الجعد بن درهم كان طيشًا عسكريًا في المحراب، قام به الفاتك خالد بن عبد الله القسري من دون محاكمة ولا برهان، ولكننا مع ذلك لا ننكر أن القتل كان باسم الدين. وعادة ما نقول إن ابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد ونظراءهم كانوا مضطهدين، وقد تم إحراق كتبهم وأفتى العلماء بكفرهم.

ولكن ذلك غير واقعي، نعم. لقد تعرضوا لهجوم عنيف من الناس، وهذا أمر طبيعي يجب أن يستعد له كل من قام بمحاولة تغيير حقيقي في المجتمع، ولا ينبغي على المصلح أن ينتظر تدخلًا من الدولة لمنع الناس من نقده أو اتهامه أو حتى منع كتبه أو إحراقها. ولكنهم أيضًا كانوا قضاة ووزراء ومشاهير في دول الخلفاء، وقد ارتكبوا السياسة ونالوا وزرها، وأصابهم من عافيتها وبلائها.

نستعرض ما لقيه الفلاسفة والمفكرون من الاضطهاد في التاريخ الإسلامي، وهو كثير ومرير بكل تأكيد، ولكنه لا يختلف كثيرًا عما لقيه أيضًا القادة التاريخيون للفكر الملتزم، فالأئمة الأربعة ذاقوا مرارة السجن وبطش السجان، سجن أبو حنيفة مرتين مرة في عهد مروان آخر خلفاء بني أمية ومرة في عهد أبي جعفر المنصور ومات في السجن، وسيق الشافعي للمحاكمة على حمار بلا إكاف من اليمن إلى بغداد، وسجن الإمام مالك وضرب حتى خلعت كتفاه على يد سليمان بن جعفر والي المدينة لأبي جعفر المنصور، وسجن أحمد بن حنبل في سجون المأمون والمعتصم والواثق، وضرب ضربًا شديدًا وكان يُنخس بالسيف فلا يحس لطول عذابه! والأمر نفسه سنلحظه كلما استعرضنا أسماء للمشاهير سواء من الفقهاء أو الفلاسفة الذين كانوا يحظون بمحبة الناس ويتعرضون للمكائد والمكر السياسي، فيغضب منهم الملوك ويذيقونهم أشكال الإهانة.

وما لقيه في هذا المعنى ابن رشد وابن الهيثم والفارابي لا يختلف عما لقيه ابن تيمية وابن القيم، وهي معاناة كانت تتكرر وفق التحولات السياسية وسوء الحظ الذي كابده التنويريون والتقليديون على السواء.

من المؤكد أن أصحاب المواقف العقلية أو التي تؤثر تقديم العقل على النقل سيواجهون من العامة صدودًا كبيرًا، ويجب ألا يسوءهم أن يطردوا من المعاهد الدينية وتصدر بحقهم بيانات وفتاوى، فهذه طبيعة الحياة، ولكن يجب أن نعلم أن الحضارة الإسلامية فسحت لهم في مكان آخر.

كان الخليفة أبو جعفر المنصور يعقد مجال الحوار مع الدهريين (الملاحدة) بإشراف الخلافة، وحين كانت الحوارات تنتهي، كان الدهريون كما الفقهاء يذهبون إلى بيوتهم ويستعدون لتأليف كتب جديدة.

لقد كتب أبو العلاء المعري في نقد الأديان ما لا يحصيه حاصر، وديوانه (سقط الزند) يكفي لإصدار ألف حكم بإعدامه في التنظيمات الخوارجية:

إن الديانات ألقت بيننا إحنًا.. وعلمتنا أفانين العداوات.

ممـات، ثم حشر، ثم نشر.. حديث خرافة يا أم عمرو!

ولكن أبا العلاء ظل في مكان كبير في قلوب الناس، وظل محبوه وقراؤه يروون عنه ويتبنون أفكاره في المجتمع الإسلامي، وأقام له الناس ضريحًا مهمًا في قلب معرة النعمان، وظل هذا الضريح في العصر العباسي والزنكي والأيوبي والعثماني لم يمسسه سوء حتى جاء التطرف الراديكالي على شكل شبه دولة فهدم الضريح ولعن الشاعر.

وما أثر عن الشيخ محي الدين بن عربي من القول بوحدة الوجود ووحدة الأديان والحلول والاتحاد أكثر من أن يحصى، وصدرت بحقه عشرات الفتاوى والكتب الغاضبة تكفره وتدعو إلى قتله، ولكن الرجل ظل مكان احترام وتقدير كبير في الشام حكامًا ومحكومين، وتزاحم الملوك والولاة للدفن في أعتاب الشيخ محي الدين، وتم تسمية جبل قاسيون كله باسم جبل الشيخ تكريمًا له في المخيلة الشعبية الشامية، وعلى سبيل المثال فإنه لا مقارنة أبدًا بين ضريحه في جبل قاسيون وبين الضريح المهجور في منطقة البرامكة بدمشق لخصمه ابن تيمية الذين كان يمثل قائدًا تاريخيًا للاتجاه التقليدي في اتباع السلف.

العراق تاريخيًا شهد عاصمة الخلافة الإسلامية لخمسة قرون وربع، وظل مركز دول إسلامية مهمة لخمسة قرون أخرى، ومع ذلك فإن العراق ظل متحف أديان وثقافات، وظلت فيه الأديان والثقافات المناقضة للعقيدة الإسلامية بشكل تام، النصرانية واليهودية والزرادشتية والصابئة الحرانية والمندائية والكاكائية والشبك واليزيديون ولا زالوا إلى اليوم يعيشون في المجتمع العراقي، ويحملون تصوراتهم الدينية الخاصة، وفيهم كتاب وشعراء ومفكرون، ولم يكن الاضطهاد لغة الدولة ولا لغة الناس، وإنما كان فقط سلوك الجماعات الخوارجية الباغية التي لا تلتزم بقضاء ولا قانون.

إن المبالغة في تصوير العالم الإسلامي طاردًا لكل فكر حر، وخانقًا لكل رؤية تنويرية لا يخدم التنوير ولا يعكس الحقيقة، ويجب أن تكون ثقة التنويري بالناس كبيرة، فهم يعلمون أنه يعمل لأجلهم وأنه ينير لهم الدرب، ولكن عناءهم مع التيار التقليدي السلفي كبير بكل تأكيد كما أن عناء السلفي مع التنويريين كبير بكل تأكيد.

الجمهور الغالب تاريخيًا من المسلمين على مستوى الراعي والرعية هو جمهور يحترم قادة الفكر العقلي، ومكانهم في ضمائر الشعوب محفوظ ومعروف، والثناء عليهم في كل مكان، على الرغم من الفتاوى الغاضبة التي لا تتوانى في تكفيرهم، وهي في الجملة فتاوى لفقهاء سلفيين صادرة خارج الدولة وخارج سلطانها، وهذا ما نقرأه عمومًا عن ابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد وابن طفيل وابن باجة وغيرهم من الفلاسفة، وعن ابن عربي وابن سبعين وجلال الدين الرومي، وغيرهم من قادة الفكر الصوفي الإنساني الداعي إلى إخاء الأديان وكرامة الإنسان.

أما وجود فتاوى للتكفير فهو أمرٌ لا ننكره ولا نتنكر له، ولا نقلل من أهميته وخطورته، ولكننا نملك القول إن روح الحضارة الإسلامية استطاعت أن تتسع للجميع، وإن تاريخنا ليس تاريخ بائسًا ماكرًا مكللا الدم والعنف كما يتصور الراغبون بالتغيير، بل هو تاريخ طبيعي، يشبه تاريخ الأمم، إننا باختصار: أمة بين الأمم ولسنا أمة فوق الأمم، ولا أمة تحت الأمم.




المصدر