دير الزور وبرلين وسياق الحرب الوهمية


عمار عيسى

رُسِم نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية بالدم، وخطّ مؤتمر يالطا (تشرشل – ستالين – روزفلت) حدودَ الدول، وشرعنَ نفوذ المنتصرين على البقية المهزومة أو الضعيفة؛ وهزمت نازية هتلر، بعد نقضه المعاهدة (النازية – السوفيتية) وهجومه على روسيا التي ما لبثت أن وصلت بنادقها المتعبة وبعض حراب الغرب إلى برلين. واستقرت الأمور على أن تكون ألمانيا الشرقية غنيمةً تحت النفوذ السوفيتي، وألمانيا الغربية تحت النفوذ الغربي بقيادة أميركا، وبرلين، في القسم الشرقي، تحت الاحتلال المشترك للحلفاء السابقين زمن الحرب. وما إن وضعت الحرب الكونية أوزارها وانجلى غبار المعركة، حتى أضحى أصدقاء الأمس، أعداء اليوم، في حربٍ أطلق عليها اسم “الحرب الباردة” كان أول من زرع بذرة شرارتها “ونستون تشرشل”، بين معسكرَين متنافسين أيديولوجيًا، وعسكريًا، وسياسيًا، وثقافيًا، واقتصاديًا، كانت حربًا باردة في المركز، تفتر أحيانًا، وحاميةً في المحيط هددت البشر بالفناء، وأصبح المستقبل آنذاك مجهولًا وحبيس سحابة نووية كادت أن تفرغ محتواها. كانت ألمانيا وجدار برلينها الذي بدأ بأسلاك شائكة، أفضلَ تعبير عن صراع النفوذ والهيمنة وتنابذ الأجندات وتعظيم المصالح القومية آنذاك.

قال الناطق باسم الرئاسة التركية: إن “قوات إيرانية وروسية ستوكل إليها حماية المنطقة الآمنة حول دمشق، وقوات روسية تركية ستتولى مهمة الحفاظ على إدلب، وقوات أميركية أردنية لحماية منطقة درعا في الجنوب”.

ليس ثمة شك، بالرغم من كل انقسامات الرأي حول الوضع السوري وصعوبة تكهنات مجراه، أن سورية باتت أزمة “عالمية” بامتياز، وأنها ضحية تناقضات طرأت بشكل مشابه لما حدث في ألمانيا، بعد الحرب العالمية وإبان الحرب الباردة، بل قد تكون سورية أكثر تعقيدًا من ذلك؛ حيث إنّ دولًا إقليمية شرق أوسطية انخرطت، وأخذت تقرر ما حدث ويحدث، ولكن بسياق بارد وهمي هذه المرة، أي إنه معلن من طرف واحد، من روسيا البوتينية صاحبة الثأر التاريخي الذي تضمره بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، لتحسين شروطها ولتظهر منافسة ومقررة على الساحة الدولية وصراعات النفوذ والهيمنة ومسرح العمليات العالمي عبر استخدام القوة المفرطة في عدد من الدول التي تدخل فيها بوتين، أمام استدارة ظهرٍ أميركية وتحالف غربي بقيادتها، يزحف ويطوق روسيا في الجيوبوليتيك الخاص بها، ويجعل أصدقاءها أعداء (أوكرانيا). وكما سقط السوفييت بحرب باردة وانفرط العالم ثنائي القطب، علّ هذه الجديدة تشكل مدخلًا للعودة السوفيتية عبر التوتير والتصعيد في دول، هي عمليًا، تحت الهيمنة الأوروبية والأميركية. وهو ما زال مدخلًا وهميًا، لأنه تدخل لتحسين الوضع في عالم أحادي متأرجح.

لم يعد في سورية ممكنًا إطلاق أحكام ثابتة ونهائية تعمم على كامل الخارطة، فما يحاك شرقًا لا ينطبق أو لا يصح غربًا، وما يطبخ شمالًا لا يُؤكل جنوبًا، فكل طرف أصيل يشرف على طرف محلي وكيل، يقتطعون جزءًا من الأرض، ويلتحفون بسمائها، كغشاء يفصلهم عن البقية، مشكلًا منطقة نفوذ يديرها ويشرف عليها. وبالرغم من أن ديناميات المعارك المتصاعدة لم تفرز بعدُ واقعًا ميدانيًا ثابتًا ولا ترسيمًا طبوغرافيًا، فثمة وقائع تشير إلى أن خطوطًا حمراء قد رسمت، منها إسقاط طائرة للنظام السوري جنوب الرقة، عندما دخلت في منطقة العمليات الأميركية ووكلائها الأرضيين “قوات سورية الديمقراطية”، وثلاث ضربات متكررة، خلال شهر حزيران، لأرتال مسيرة روسيًا وإيرانيًا من النظام وميليشياته الشيعية، في البادية السورية قرب التنف. لا يبدو أن عالمنا “البارد” اليوم متوحد حتى في وجه “النازية الداعشية”، بل تمضي الأطراف في حربها ليس من باب مواجهتها قيميًا فحسب، وإنما من باب الاستثمار فيها واكتساح تركتِها لرسم مستقبل المنطقة، وإن بدا أنّ الجميع يقاتلون بإخلاص. تتجه الأنظار اليوم صوب “برلين سورية” دير الزور (مقالة نشرت سابقا في صحيفة نيويورك تايمز) ويحتدم تنافس محموم للسيطرة على المدينة، حيث حققت قوات النظام السوري، بدعم روسي وإيراني، اندفاعة عبر ثلاثة محاور على تلك الجبهة لأهميتها الاستراتيجية في خضم الصراع على النفوذ، ولوجود طلائع للنظام السوري فيها. هناك أعطي ستالين ضوءًا أخضرَ غربيًا لاقتحام برلين كهدية مغلفة، في نيسان/ أبريل 1945، حيث كانت ميدان المعركة الأخير، وشكّل التنافس عليها -فيما بعد- أحدَ أهم مراحل احتدام الحرب الباردة، فقوات الغرب، وعددها نحو 12 ألف جندي، محاطة بخمسة ملايين جندي سوفيتي وألماني شرقي، وفشلت كل محاولات ستالين ونيكيتا خرتشوف خلال الحرب الباردة، ومبادراتهم بإقناع القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية هناك بالانسحاب، كانت آخرها مع كينيدي. كانت برلين الغربية (بعد بناء جدار برلين) تمثّل يدَ الغرب في الفضاء السوفيتي، في عالم ما وراء الستار الحديدي.

صرّح التحالف الدولي لمحاربة (داعش) في سورية والعراق، على لسان الكولونيل راي ديلون، أن “لا مشكلة لدينا مع كل من يحارب (داعش) ويدحره، بما فيها قوات الأسد وحلفاؤها، لأن أميركا لا تتنازع على الأرض بل هدفها القضاء على (داعش) أينما وُجد”. فهل يشكل ذلك تسليمًا وضوءًا أخضرَ أميركيًا للنظام وحلفائه للتحرك باتجاه دير الزور؟ أم أن ذلك هدية مغلفة ملغومة لروسيا، لتدخل معركة استنزاف لا يبدو أنها ستكون سهلة؟ وهل يسمح أساسًا، ضمن سياق الحرب الباردة الوهمية هذه، أن يسيطر النظام والميلشيات الإيرانية على برلين سورية؟ تكتسب دير الزور أهميتها الاستراتيجية من أنها ستكون مكانَ إعلان هزيمة (داعش) المرتقبة خلال الشهور القادمة بعد اجتماع قواتها ضمن مثلث مدن (دير الزور – الميادين – البوكمال) إثر انحسارها في الموصل؛ حيث سيكون هذا المثلث مسرحًا لآخر عمليات القضاء عليها، بمعركة “كسر عظم” لن تكون سريعة، كما أنها محط اهتمام أميركي بما تشكله المنطقة من صخرة، تكسر عليها مشاريع إيران التوسعية المستهدَفة أميركيًا. من غير الواضح بعد، لمن ستكون دير الزور، وخاصة بعد أن قطع الإيرانيون الطريق على قوات الجيش الحر المدعومة أميركيًا، لكن هل سيترك الغرب هذه العقدة الاستراتيجية بسهولة؟

لم يُعَد توحيد الألمانيتين، وإنهاء التقاسم، وإسقاط جدار برلين، إلا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ضمن ديناميات الحرب الباردة، ولم يُسلّم الغرب بمبادرات القادة الروس سابقًا (أستانا حاليًا) بالحل الروسي، أي لم تتوافق الأطراف على حلّ المشكلة. وسورية أيضًا لن يُعاد توحيد أشلائها حتى يصفي طرف واحد بقية الأطراف الأخرى -وهو المرجح- أو تتغير الاستراتيجيات المتبعة، ويصار إلى مؤتمر دولي، يبدو أنه ليس لسورية وحدها وإنما للإقليم ككل. فالثابت والمؤكد أن الخارطة السورية لن تتسع للجميع، بعد (داعش).




المصدر