“أمانة عيوني”… سؤال بلا جواب


جمال الشوفي

كانت المعرفة بصرًا في المبدأ؛ والبصر رؤية الواقع المحيط أولًا، في تعدد ألوانه وتمايزها.. رؤية الطريق وعثراته.. رؤية الشخوص والأماكن.. رؤية الأرجوحة وألعاب الكمبيوتر، ورؤية الكتب وقراءة مضامينها. إن تشكيل العقل وصورة العالم وتكونه يكمن في الرؤية، في المبدأ، هي أولوية العقل السليم.. العقل المدرك لواقع الحياة وأول مفاهيمه البكر.

محمد الغوطاني ذو العشرة أعوام (ابن عين ترما) نادى أباه: “عيوني.. أمانة عيوني”، عندما داهم منزله وأهله قصفٌ صاروخي، صباح ثاني أيام عيد الفطر، يومَ نزفت عيناه فغدا الكون أسود، بل ظلامًا يزيد ظلمة عن قصة موت معلن، عن قصة موت متكرر يوميّ لم يتوقف، تجاوز عدد ضحاياه خمسًا وعشرين ألف طفلٍ سوريّ، حسب منظمات دولية.

هذه المرة اختارت قنابل الحقد السياسي والسلطة الهمجية أن تنال من حدّ المعرفة الأول لدى أطفال سورية.. حد الرؤية والتمييز، اختارت أذيّة أبيه، وقلب كلّ أب في بصر ابنه، ربما يقول البعض جزافًا: إنها الحرب، وعشوائية القتل! لكنها كانت -وما زالت- تستهدف الوجودَ السوري وحياته وطفولته ومشروع ثورته، أمام صلف الحكم وشهوة السلطة الفجة وأيديولوجيا القوة والإرهاب؛ وإلا فبأي ذنب تذبح طفولة أمّة؟ لم تقتصر القصة يومًا في سورية على عينيّ محمد، فقبله عبد الباسط السطوف الذي لم تزل كلماته تحفر في وجدان أبيه، يومَ قطعت غارة جوية قدمَيه في إدلب، ليصعق الأب مذهولًا؛ فيناديه ابنه “يا بابا، شيلني”، ولم تزل نظرات عمران، الطفل الحلبي أيضًا تنضح بآلاف الأسئلة، ذات لحظة ذهول حين رأى هول ما فعلته غارة حربية جوية على منزلهم، وما زالت الثقوب في جسد حمزة الخطيب، ابن درعا، تنز تاريخ الوجع السوري، سيل دمه وقهره على قارعة الأمم، على ناصية القيم والحقوق الإنسانية وشرعتها الدولية.. تلك الملحمة التي يعيشها الطفل السوري، تلك المجازر التي أراد ابن الأربعة أعوام، ذات يوم، أن يخبر الله عنها، بعد أن صم العالم ومنظماته الدولية والحقوقية عن سماعها ورؤيتها، قبل أن يسلم روحه: “سأخبر الله بكل شيء” وكل شيء هو الموت جوعًا، الموت قتلًا، الموت غصة وحسرة، لقد ملأتم المقابر فينا، وتركتم قرابة أربعة ملايين طفل منّا بلا عِلم.. سأخبر اللهَ أننا نعيش في موقعة لم تسمع بها أذن ولم ترها عين ولم تخطر على بال بشر!  تلك التي استطاعت الطفلة بانا العابد، ابنة السبع سنين أن تروي تفاصيلها على (تويتر)، يوم كانت حلب تستباح من كل جنباتها، جوًا وبحرًا وبرًا -عسكريًا وسياسيًا واستخباراتيًا- في فجيعة مدينة تشبه فجيعة غروزني الشيشانية ذات يوم.

الحلاج، قبل قرن ونيف من اليوم، وقبل أن تُقطع يداه وقدماه ويُحرق، قال: “عجبتُ لكلّي كيف يحمله بعضـــي، ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضــي”، وعجب الطفلُ، وليس كل طفلٍ في الكون يُعجب مثل طفلنا في سورية، فأي ذهول يجتاحهم، أو أي مصير يعيشون، فالكل أكبر من مجموع أجزائه، وأحلام الطفل في عين ترما أو الغوطة، أو تلك الموجودة في المدن المحاصرة، تجتاز كل الواقع المأسور، كيف لكلية الإنسان الأكبر من مفرداته أن تُجتث دفعة واحدة أو على دفعات متتالية في شهوة القتل المفرطة في الوحشية؟ وكيف لا تتحمل أرضه وجودَه البريء وأحلامه الصغيرة منها والكبيرة؟

“الكلية” مذهب العقل والمعرفة، مذهب المفهوم وقد تقشرت عنه الصفات الخاصة في جدلية العام والخاص في المحتوى، الكل المتضمن كل صفات الخاصّات (جمع خاص) وليس إحداها، كلية الإنسان عند الحلاج كانت أكبر من بعضه، من قدميه، من أحلامه، من فكره، إنه فكرة الانسان في جماع إنتاجه ووجوده العام، لا فكرة الشخص بذاته، هي نسبية أينشتاين في الطاقة والتحول المتبادل كمي- طاقي، والعكس. هي مذهب التعليم الحديث الألماني في “المدرسة الجشتالطية” التي ترى أن طاقات وإمكانات الفرد الذاتية أكبر من وجوده الجسماني واللحظي والمتعيّن؛ فتعمل على إطلاقها كاملة وتحريرها من رقبة التقييد والتقنين. هذه الكلية هي لعنة القهر ونظم الاستبداد، هي تلك التي أقام عليها حربًا تقتل البشر وتجتث المدن، هي كلية الروح السورية، كلية وجوده الحضاري والثقافي، حين كان في طور التشكل، كلية براءة الأطفال ومستقبلهم في بلدٍ، كان يرنو إلى أبسط حقوق المواطنة والعدالة والتحرر؛ فباتت قدماه هدفًا للطائرات، وعيناه مرمى الشظايا والقناصات وكل أسلحة الدمار المسموحة والمحظورة على حد سواء، هي اللعنة ذاتها التي قتلت الحلاج وابن رشد تاريخيًا وتجتث طفولة سورية اليوم، همجية السلطات التاريخية الشرقية ذاتها، وإن تبدلت شخوصها.. كلية الروح السورية اليوم، هي ذاتها التي وصفها هيغل يومًا في (فينومينولوجيا الروح) بعد عام 1848، هي روح ثقافية هائمة في الكون تبحث عن وطن، بعد أن بلغ شتات السوريين كل دول العالم، وقارب عدد لاجئيه ستة مليون، وعدد المهجرين في الداخل قريب منه، هذا فضلًا عن مئات الألوف من الضحايا والمعتقلين، وعن محمد وحمزة وهاجر وعمران وبانا.. والقائمة تطول من زمن الموت السوري ..

حمل أحلامه في اللعب، في الضحك في العِلم، حلم بأرجوحة، بطائرة ورقية يلاعبها صباح يوم عيد، ولم يحمله وطنه! حين تابع الطائرة بعينيه يظنها طائرة ورقية أحضرها له العيد تحقيقًا لأمانيه المسلوبة منه طوال خمس سنين، ربما كانت عمره كله، ضحك لها ولاحقها راكضًا يلوح بيديه الغضتين، ولغدرٍ في الحلم، ومكر في تاريخ الوطن، وعهر في العقل الإجرامي؛ رمت له هدية العيد، حين وصلت إليه، حين وصلت أرض وجوده الضاحك، صحا من حلمه، صارخًا: “عيوني، أمانة عيوني”. والأمانة هي عهدة البشر وعهدة الخالق وعهدة الدولة، الأمانة شيئان معًا: إخلاص في الوجدان وأمان في الحياة. وهذا ما لا يعيشه أطفال سورية إلى اليوم، ولا شبابها ولا نسائها ولا عامة ناسها.

هل تبلغت الرسالة، يا رب هذا الكون؟ هل وصلتكم حقيقة ما يجري، أيتها المنظمات الدولية والأممية؟ هل رسيتم على حل في خفض التوتر، يا ساسة العالم؟ يأتيك الصوت من بعيد، صوت صناع القرار العالمي: “إن أي استخدام للسلاح الكيماوي في سورية سيعاقب عليه النظام شر عقاب!”، وكأن استخدام سلاح الطيران والفتك بالبشر والحجر أمرٌ مقبول، ما دام المستهدف به هم الأطفال والشباب والنساء من السوريين، ما دام غرضه القتل والتهجير والتغيير الديموغرافي والقضاء على كلية الثورة في التغيير والتحول إلى دولة المواطنة، إلى شرعية القانون، إلى فتح بوابات الحرية والتحرر لطاقات الشباب السوري، وليس فقط لبتر الربيع العربي في سورية وتحويله إلى هذا الوبال المدقع عليها وعلى المنطقة، فلا بأس، ولكن إياك ثم اياك من استخدام السلاح الكيماوي!!

ذات يوم ستلخص صورة إيلان، الطفل السوري المرمي على سواحل الهجرة ميتًا، ستلخص المشهد السوري عامة: المصير المجهول، عجز القيم العالمية والإنسانية، انفتاح كل الغرائزية والهمجية على القتل، وموت أحلام الطفولة، وإن لم يكن فبتر أقدامها وبقر بطونها وقلع عيونها، حتى لا تتمكن من الإدراك، مكتفية بالصراخ وحسب؛ وبالتالي الاستعطاء والاستجداء، وهذا عكس مسار الكرامة والحرية الأول الذي أُريد قتله في المهد والمبدأ.




المصدر