سنة على الانقلاب الفاشل


عقاب يحيى

لم يكن يومًا عاديًا يوم الخامس عشر من تموز/ يوليو العام الماضي، حيث كان الائتلاف يُقيم ورشة مهمة حول المسألة الكردية، وفي اليوم ذاته كان عدد من الأصدقاء يقيمون ورشة لأبناء الجزيرة (الحسكة)؛ بهدف إقامة شكل جمعي يسهم في الحراك السياسي والمدني، ويكون له دور فاعل في الساحة السورية.

حضرتُ جزءًا من ورشة العمل الخاصة بالمسألة الكردية، وكانت الآراء مختلفة، والنقاط متباعدة حول محتوى جدول العمل، إن كان لجهة تحديد مقومات المظلومية من حيث الشمول والمناطق والإجراءات والحلول، أو حول الفيدرالية، وسقف الحقوق الكردية القومية، وغيرها من الاختلافات في وجهات النظر.

كذلك، حضرت جانبًا من ورشة أبناء الجزيرة، وكانت المسألة الكردية مطروحة أيضًا، والتقيت ببعض الأصدقاء، ثم ذهبت متأخرًا إلى “مقر التجمع” الذي كنا نسكن فيه، الأستاذين ميشيل كيلو، وأنس العبدة، وأنا.. ولم يخطر بالبال أنه يوم استثناء، وأن شيئًا كبيرًا خطيرًا يُدبّر، وعهدنا بالانقلابات في بلدنا حاضر، وإن تأخر عقودًا منذ تولي الطاغية الأسد الحكم بانقلاب عسكري على الحزب الذي ينتمي إليه، والذي مكّنه من أن يصبح وزيرًا للدفاع وقائدًا لسلاح الطيران.

بدأت الأنباء تتوارد عن وجود شيء يحدث: “انقلاب عسكري في تركيا”. كنا مجموعة تضع اليد على القلب، لكنها تختلف في التأثر والتعبير، فبعضنا أمضى العمر في العراك السياسي، وخبر كثير المحن والامتحانات؛ فحاول الحفاظ على أعصابه انتظارًا لمعرفة حقيقة ما يجري، والقدرة على النجاح، والبعض ركبه همّ التراكم فانبعث قلقًا يفتح ممرات كثيرة في متاهات الشعاب.

كان خوفنا، أو قلقنا، يتفرّع باتجاهين: الأول حول مستقبل ومصير السوريين، إن نجح الانقلاب، وهم بالملايين، والثاني نتائج سقوط الحكومة التركية بقيادة رجب طيب أردوغان، والتي حققت ما يشبه المعجزة في نقل تركيا من موقع الدول المتخلفة، إلى مصاف الدول المتطورة التي تُنافس دولًا أوروبية عريقة بتقدمها وخبراتها الاقتصادية، وهي تزاحمهم لاحتلال مواقع متصاعدة في سلم الدول الاقتصادية القوية، وخشيتنا من حكم العسكر، وما فعلوه بتركيا، أو في بلادنا.

يختلط الخاص بالعام، حين تغزوك آلاف المشاعر والتصورات عن أوضاعنا، وأين المفرّ والدنيا تسدّ أبوابها بوجه السوريين، وهناك من ليس لهم أي ملجأ سوى تركيا، وهناك من وطّد أموره وحياته فيها، وهناك عشرات الأسئلة التي تقتحم طالبة جوابًا يختلط بغيوم التصورات.

لم يكن الأمر متعلقًا بالموقف التركي المتميز من الثورة السورية، واحتضان ملايين السوريين وحسب، وبغض النظر عن القرب أو المسافة مع الحزب الحاكم، فإن مصير الديمقراطية هو الشاغل الأكبر، ذلك أنه، بعيدًا عن أي ملاحظات، أو انتقادات يمكن توجيهها للحكومة التركية، فإنها نجحت في تكريس الديمقراطية نهجًا وحكمًا وعلاقات، والالتزام بدستور البلاد العلماني الذي وضعه رمز تركيا الحديثة مصطفى أتاتورك، والشعور بأهمية تعايش جميع الاتجاهات، وحتى الأزياء في الشارع التركي في لوحة، تفتقدها جميع البلاد العربية.

حين أذاع الانقلابيون بيانهم رقم 1 الذي أعلنوا فيه نجاحهم، وسيطرتهم على الوضع؛ اكفهرّت وجوهنا، وانتقلت الأسئلة الداخلية إلى الزوايا الحرجة، وكلّ منّا لا يريد الإجابة المباشرة عن التوقعات، لكن شيئًا ما داخلي كان يُنبئ بأن الأمور ليست مكتملة مع الانقلابيين، وكنت هادئًا، وكأن صوتًا داخليًا قويًا يُعلمني أن الانقلاب لن ينجح.

سمعنا كلمات الرئيس أردوغان، كان يتوجه إلى شعبه بثقة وشجاعة، ويدعوهم إلى النزول إلى الشوارع لإجهاض الانقلاب، وما هي إلا دقائق قليلة حتى ارتجّ السكون بحركة غير عادية، قوافل سيارات تُطلق مزاميرها وهي تتجه تباعًا نحو المطار، أو الأمكنة التي يتواجد فيها الانقلابيون.. سيل عارم من السيارات كنا نتابعه من الطابق 23 لسكننا، وقد ابتهجنا ورحنا نمزح -الأستاذ ميشيل وأنا- ونحن نلقي خطابات وقفشات وأمنيات.

فشل الانقلاب بعامل رئيس، هو انتفاضة الشعب والتفافه حول الحكم، ورفضه بمعظم أطيافه وقواه السياسية للانقلابات العسكرية، ووأد الحكم الديمقراطي.

تحسّرنا كثيرًا على واقع بلادنا الذي قام فيها الشعب بأغلبية ساحقة مطالبًا بالحرية، وكيف جُوبه وعومل، وكيف فتح نظام الجريمة والفئوية الأبواب كلها لشتى أنواع التدخلات كي تصبح سورية حقل التجارب وساحة تمرير للمشاريع وتصفية الحسابات.

تعود بي الذاكرة الحيّة إلى الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، ذكرى قيام “الحركة التصحيحية” وردات الفعل، والرهانات الخاسرة على الحزب والشعب، وموقع كل ذلك من العسكر وفعلهم، ومنطقهم.

نظريًا؛ كانت الأغلبية الساحقة من الحزب “الحاكم” ضد الأسد وكتلته، وضد الانقلاب العسكري، وتُعلن وقوفها مع قيادة الحزب.

تنظيميًا؛ صوّت المؤتمر العاشر الاستثنائي، وهو أعلى سلطة حزبية، على فصل حافظ الأسد ومصطفى طلاس بأغلبية شبه كاملة (الجميع عدا ثلاث).

شعبيًا؛ كان العقل السائد يعتقد أن أغلبية الشعب مع الحزب، خاصة “الجماهير الكادحة”، وأنه لن يقبل حكمًا انقلابيًا عسكريًا، وعقد رهانات على ذلك، ووقف بشراسة، ومنذ هزيمة حزيران ضدّ إقامة جبهة مع الأحزاب والقوى السياسية، وتوسيع قاعدة المشاركة والقرار.

واقعيًا؛ حاولت فروع حزبية عدّة التظاهر لبضعة أيام ضد الانقلاب، ومعها نفر شعبي قليل أخذ يتناقص، ثم بدأ الانهيار؛ بانتقال أغلبية الحزب إلى صفوف الانقلاب، بينما في الواجهة الإعلامية، استُقبل الانقلاب بتأييد شعبي كبير، وهناك مدن كدمشق وحلب وحماة، وغيرها ابتهجت، والتفّت حول زعيم الانقلاب، وأقامت الأفراح، وذبح الجمال والكباش ابتهاجًا، بينما بدّلت الأحزاب السياسية مواقفها باتجاه تأييد النظام وقبول الانضمام إلى “جبهته الوطنية التقدمية”.

ويبقى السؤال: حين يعيش الشعب حالة ديمقراطية، هل يمكن مقارنته بشعب محكوم بالقمع واغتيال الحريات العامة والخاصة، والتهميش والإبعاد عن المشاركة بالقرار، وشؤون الحكم؟

الشعب التركي من جهته.. قرر.. وحسم.




المصدر