سوريا على مفترق طرُق


بينما انتهت جولة أخرى من مفاوضات جنيف بلا أي تقدم، بسبب مماطلة النظام وروسيا ورفضهما الخوض في مسألة التحول السياسي، برزت مواقف دولية جديدة تسعى إلى تعويم بشار الأسد ونظامه، انطلاقاً من فكرة أن رحيله ليس شرطاً للحل في سوريا، وهو التحول الذي تحاول المعارضة السورية مقاومته، مؤكدة تمسكها بالثوابت لجهة ضرورة رحيل النظام بكل رموزه، بل وخضوعهم للمحاسبة والمحاكمة على ما اقترفوه بحق البلاد والعباد.

وقد عبر عن التوجه الجديد الذي بدأ يتبلور في الساحة الدولية بشأن الوضع في سوريا المبعوث الدولي الى سوريا ستيفان دي ميستورا الذي قال في ختام اجتماع جنيف ” إن قادة العالم أصبحوا يركزون على إيجاد الأولويات التي من شأنها أن تبسيط الأزمة السورية، حيث باتت الأولوية عند الجميع هي محاربة “داعش” وتحرير الرقة ورفع الحصار عن دير الزور، إضافة إلى تخفيف التصعيد والمساعدات الإنسانية وتنظيف الألغام وقضية المعتقلين، وربطاً بهذا كيفية تحقيق الاستقرار في البلاد والذي طريقته الوحيدة هي الحل السياسي”.

وقد عبر وفد المعارضة عن خيبة أمله من هذه الأجواء، وقال المتحدث باسم الوفد يحي العريضي إن هناك انسداداً متواصلاً في محادثات جنيف لأن نظام الأسد ما يزال يصر على النهج نفسه والمتمثل في ” أحُكُمها أو أدمرها”، معولاً على  داعميه روسيا وايران دون أن تتبلور لديه حتى الآن أية إرادة للانخراط الجدي في الحل السياسي، أو حتى في المسائل التقنية والتي حققت المناقشات بشأنها بعض التقدم مع وفد المعارضة، دون أن يقابله تقدم مماثل مع وفد النظام،  وأوضح العريضي أن النظام يسعى إلى تفريغ مناقشات جنيف من محتواها والدفع باتجاه “حل ” على طريقته، يقوم على “المصالحات المحلية” وتهجير من يرفضها إلى الشمال السوري، كما حدث في الكثير من المناطق السورية، وهي سياسة تحظى كما يبدو حتى الآن بدعم من حليفتيه روسيا وايران.

وفيما نفى العريضي علمه بما تسرب عن طرح روسي بشأن تشكيل مجلس عسكري مشترك بين النظام والمعارضة يتولى إدارة البلاد خلال المرحلة المقبلة، قال اللواء المنشق محمد حاج علي إنه سبق أن نوقش هذا الأمر خلال ورشات عمل كثيرة مع جهات دولية و”أعتقد أنهم يعملون عليه”، ولم يستبعد حصوله في حال كانت هناك إرادة روسية أمريكية مشتركة في هذا الأمر.

وأوضح أن الهدف من إقامة مثل هذا المجلس هو “جمع قوات النظام والمعارضة لمحاربة الإرهاب المصنف وحفظ الأمن داخل البلاد وتنظيم العمل المسلح وجمع الأسلحة من أيدي من لا يؤمنون بالحل السياسي”، وأعرب حاج علي عن اعتقاده بصعوبة حدوث ذلك من دون وضوح الرؤية السياسية للحل.

على حساب جنيف

من الواضح أن هناك العديد من المعطيات التي تشير إلى تضاءل أهمية مسار جنيف، مقابل تقدم دور التفاهمات والاتفاقات الجانبية التي تتم بين الدول الرئيسة الفاعلة في القضية السورية، وهي تفاهمات باتت تتم على حساب المطالب الأساسية لـ “الثورة السورية” بما يتضمن التسليم بدور رئيس النظام بشار الأسد في المرحلة المقبلة، والقبول بشبه تقسيم للبلاد، تحت يافطة محاربة الأرهاب و”الجيوب الأمنية” والتي يجري تشريعها على أساس أنها “مؤقتة” وتمهد للحل السياسي الشامل.

وبينما يسود التراخي والمماطلة أجواء جنيف التي لا تحظى بحضور دولي فاعل، تبدو الإجراءات الأحادية التي اتخذت خارج جنيف، وخارج حتى أستانا، ذات أولوية على الأرض، ما دفع المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا ، للدعوة إلى جعل اتفاق تخفيف التوتر في جنوبي سوريا مثالاً لغيرها من المناطق في إدلب وشمالي حمص والغوطة الشرقية.

كما كانت منطقة “تخفيف التوتر” جنوبي سوريا مدار بحث بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والعاهل الأردني عبد الله الثاني، في اتصال هاتفي، إضافة إلى القضايا المتعلقة بمحاربة الإرهاب، وفق بيان صدر عن الكرملين، وقال البيان إن الرئيس الروسي والعاهل الأردني أشارا إلى أهمية المذكرة حول إنشاء منطقة لخفض التوتر في جنوبي سوريا، والموقعة بين روسيا والأردن والولايات المتحدة في 7 من الشهر الجاري، بالنسبة لمواصلة العمل على فرض نظام وقف الأعمال القتالية في مناطق أخرى من سوريا.

وفي السياق ذاته، أعلنت الحكومة الأردنية أن الجهود ما تزال متواصلة لصياغة التفاصيل الخاصة باتفاق الجنوب، وقد وصل العمل إلى المراحل النهائية.

ومع الانزياح الدولي المتواصل لصالح موقف بلاده، ابتعاداً عن المطالبة بتنحية  بشار الأسد، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن روسيا لا تدعم الأسد، لكنها متمسكة بحق الشعب السوري في تقرير مصيره، حسب تعبيره، وتابع الوزير الروسي: “فيما يتعلق بالأسد فنحن لا ندعمه، لكننا لا نريد إطلاقاً أن يتكرر ما حصل في العراق، حيث دول غربية كثيرة كانت متعطشة للقضاء على الديكتاتور هناك، وبعد القضاء على الدكتاتور جرى القضاء على البلد أيضاً، لأننا نشهد هناك تطورات شديدة التعقيد”.

مبادرة أورو- أمريكية

وفيما يبدو أنه امتداد لهذا “الزخم” الذي ولده الاتفاق الأميركي- الروسي في الجنوب السوري، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد محادثاته مع نظيره الأميركي دونالد ترامب أنه طلب هو والرئيس ترامب من دبلوماسيين إعداد مبادرة ملموسة في الأسابيع القادمة بشأن مستقبل سوريا، في حين كشف ترامب عن وجود خطة للوصول إلى وقف ثانٍ لإطلاق النار في منطقة بالغة الصعوبة بسوريا.

وقال “ماكرون” في مؤتمر صحفي مشترك مع ترامب في قصر الإليزيه، إن المبادرة المشتركة تتألف من مجموعة اتصال تضم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وعدداً من دول المنطقة وممثلين عن النظام الأسد.

وجدد ماكرون موقف بلاده الجديد في سوريا، وقال إن “الموقف الفرنسي في شأن سوريا تغير، والهدف الرئيس هو اقتلاع كل المجموعات الإرهابية من دون أن يكون رحيل بشار الأسد شرطاً مسبقاً”، معتبراً أن باريس أغلقت سفارتها في دمشق منذ سبع سنوات من دون أن يحقق ذلك أي جدوى، حسب تعبيره.

من جهته، أشاد الرئيس الأمريكي بإعلان وقف إطلاق النار في جنوبي سوريا، وقال “عبر إجراء حوار استطعنا أن نرسي وقفاً لإطلاق النار سيستمر بعض الوقت، وبصراحة نحن نعمل على وقف ثانٍ لإطلاق النار في منطقة بالغة الصعوبة في سوريا، وإذا نجحنا في ذلك فستفاجؤون بأنه لا نيران تُطلق في سوريا، وهذا سيكون رائعاً”.

غياب المعارضة

هذه التطورات التي تجري بمعزل عن رغبة أو حتى دراية المعارضة السورية، وضعت الأخيرة في موقف جديد لا يتعدى التعبير عن الموافقة أو الرفض لما يجري أو إبداء التحفظات، دون أن يكون لها أي دور في التأثير على مجريات الأمور.

وفي هذا السياق، أصدر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، بياناً حدد فيه موقفه من اتفاق الجنوب الذي أعلن في السابع من هذا الشهر، وشدد البيان على أنه لا بديل عن الحل السياسي الشامل وفق قرارات الشرعية الدولية، داعياً الى الكف عن التعاطي مع حلول مجتزأة، وخارج إطار الأمم المتحدة وقراراتها، وقال البيان أنه “لا يمكن القبول ببقاء الشعب السوري وممثله الشرعي خارج إطار الاتفاقيات والمفاوضات التي تمسّ سيادة سوريا ومستقبلها”.

وأكد الائتلاف أن الشعب السوري هو أول وأكبر المتضررين من الإرهاب وتنظيماته المختلفة، ولكن النصر على الإرهاب لا يمكن أن يتمّ دون معالجة أسبابه وجذوره، وأهمها نظام الاستبداد والفساد، وتجسيد الحل السياسي الذي يلبي مطالب الشعب السوري.

وحول التغير الذي حصل في مواقف بعض الدول من أصدقاء الشعب السوري، بشأن النظر للثورة السورية، ولرأس النظام في سوريا، اعتبر الائتلاف أن ذلك يندرج في إطار “إعادة تأهيل النظام بحجة محاربة الإرهاب”، وإذ رحب بأي اتفاق يؤدي إلى وقف العنف والقتل والتدمير بحق الشعب السوري، شدد الائتلاف على أن هذا الاتفاق “يجب أن يكون شاملاً لجميع الجغرافية السورية، وأن يتكامل بفك الحصار عن المدن والمناطق السورية، والسماح لقوافل الإغاثة الدولية بالوصول، والتوزيع، وإطلاق سراح جميع المعتقلات والمعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين، وخروج جميع القوات والمليشيات الأجنبية، وعودة المهجرين والنازحين إلى ديارهم، وهي خطوة غير منفصلة على طريق الحل السياسي الشامل”، وقال إن لديه “كثير من التخوف، والتحفظ حول اتفاقية الجنوب أهمها أنه أحدث شرخاً بين مناطق سوريا في الشمال والجنوب، وأوجد مساراً آخر بعيداً عن جنيف ورعاية الأمم المتحدة، وعزز مناطق النفوذ التي تتموضع في البلاد بأشكال مختلفة، وتمهد لأشكال من إقامة كيانات مرفوضة تشرخ الوحدة الترابية لسوريا”.

ما الجدوى؟

يرى مراقبون أن عملية جنيف برمتها لم تعد مجدية، حيث لا النظام والمعارضة يستطيعان تقديم شيء في هذا المسار طالما كانت الامور الأساسية تبحث ويتم البت فيها خارج جنيف.

ومن الناحية العملية لم يعد هناك ما يستدعي أن يتحادث الوكلاء ما دام القرار ليس في أيديهم، وطالما بات ممكناً أن يتحادث “الأصلاء” أي الراعيَين الأمريكي والروسي، بالتنسيق مع القوى الاقليمية الفاعلة في طهران وأنقرة وعمان وتل أبيب، فلا حاجة لاجتماع ممثلي النظام والمعارضة في جنيف، لأن هذه الاجتماعات الماراثونية لن ينتج عنها شيء ضمن المعطيات الحالية، وفقدت حتى بريقها الإعلامي.

وفي الأثناء تنهمك الدول الكبرى اليوم في توزيع الحصص وتقاسم النفوذ في سوريا، في ظل غياب أي سند قوي للمعارضة السورية حيث تنشغل دول الخليج بأزمتها الخاصة بينما تهتم تركيا بتحقيق مصالحها والذود عن أمنها القومي في وجه التهديدات الناشئة عمّا يحدث في سوريا.

من جهتها، تسعى روسيا إلى استغلال بعض الانعطافات في المواقف الدولية تجاه الوضع في سوريا، ومصير رئيس النظام بشار الأسد، من أجل الضغط على المعارضة السورية، ودفعها الى تغيير مواقفها بدورها انسجاماً مع هذه التوجهات الدولية .

وقد تجلى هذا التوجه الروسي بشكل خاص خلال محادثات جنيف الأخيرة، والذي زعمت روسيا أنه حمل تبدلاً في مواقف المعارضة، لصالح القبول ببقاء الأسد في السلطة، معتبرة أن موقف رفض بقاء الأسد يصدر فقط عمن وصفتهم بالمتشددين داخل المعارضة.

لكن المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، رد على تصريحات السفير الروسي في جنيف بهذا الشأن، وقال في سلسلة تغريدات نشرها على حسابه في “تويتر”  إن ادعاء السفير الروسي بجنيف أن وفد المعارضة قدم تنازلات هو محض تدليس إعلامي ومخالف للمهنية والمصداقية”.

وأكد حجاب أنه “لا تنازل عن مغادرة بشار الأسد وزمرته الذين تورطوا بارتكاب جرائم في حق السوريين” مضيفاً أن السوريين “قالوا كلمتهم في بشار الأسد وزمرته، وليس من حقنا التنازل عن المطالب الأساسية للشعب السوري”.



صدى الشام