إيران والذريعة الإسرائيلية: من الجنوب إلى الجنوب


مصطفى الولي

طرحت الاتفاقية الأميركية الروسية الأردنية التي تنص على “خفض التوتر”، في جنوب غرب سورية، تساؤلات كثيرة تتعلق بالوجود الإيراني الذي استُبعد من الاتفاق، وما ذهب إليه أكثر المراقبين والمحللين من مقاربات تتركز على أن إيران خسرت “التماس” مع “إسرائيل”، ولم تعد قادرة على الاشتباك معها، هو رأي يقوم على تصديق “البروباغندا” التي تضخها سلطة الملالي في طهران، لتسويغ اجتياحها للأراضي السورية، بل “استيطان” أجزاء منها تنفيذًا لأجندة موهومة لبناء إمبراطورية فارسية، تقع بين طهران والمتوسط على الأقل، وبينهما العراق.

الأكيد أن اتفاق جنوب غرب سورية، الذي يشمل ثلاث محافظات (درعا والسويداء والقنيطرة)، شكّل إزعاجًا لإيران لسبب رئيسي، هو أنه لا مكان لطهران في صنع الاتفاق، ولا دور لها في رعايته، ولا مجال لأدواتها للبقاء في حدود تلك المحافظات، إذا مضى التنفيذ للاتفاق، وفق ما جاء في الشروحات والتوضيحات، فكلها تؤكد على ذلك.

أما الكلام عن انزعاج طهران و(حزب الله) من الاتفاق، لأنه يخدم “إسرائيل” بإبعاد قوى “محور المقاومة والممانعة” عن خطوط الاشتباك مع “العدو الصهيوني”، ففيه الكثير من السذاجة والتبسيط، وينتج منه -بقصد أو من دون قصد- تضليل للوعي لدى الناس في المجتمعات العربية، ويضع ستارًا على طبيعة الأهداف الإيرانية من غزو قواتها وأدواتها الفاشية الطائفية لسورية، بالاتفاق مع سلطة الطاغية.

لنأخذ التجربة الأولى للسياسة الإيرانية التي قدّمت نفسها خصمًا عنيدًا لـ “إسرائيل”، ورفعت رايات فلسطين والقدس، وكان (حزب الله) طليعة تنفيذ تلك السياسة بدءًا من لبنان، فبعد أن طوى برنامجه المُعلن في الثمانينيات، والذي ينص على أن لبنان جزء من جمهورية إسلامية بقيادة ملالي طهران، التقط ورقة المقاومة والاشتباك مع “إسرائيل” من حدود لبنان الجنوبية، وأخرج هدف “بناء جمهورية إسلامية”، تشمل لبنان، من التداول. وبعد سلسلة من المعارك، وآخرها حرب تموز/ يوليو 2006 مع “إسرائيل”؛ تحوّل وجود الحزب في لبنان وقواته العسكرية الضخمة إلى أداة تضبط الحدود، وتضمن أمن “إسرائيل” من جبهة الجنوب اللبناني، ثم ما لبث أن أدار الظهر لـ “إسرائيل”، ووجَه فوهات المدافع إلى صدور اللبنانيين، في بيروت والجبل في أيار/ مايو 2007، كبداية للقمع والسيطرة على مقدرات لبنان، ومنذ ذلك الحين مضى (حزب الله) للانقضاض على السلطة السياسية في لبنان، وأعاق تشكيل الحكومة، إلا إذا جاءت هزيلة لا تتصدى لأجنداته، ثم “مانع وقاوم” أيّ محاولة لوصول رئيس للجمهورية إلى قصر بعبدا، إلا إذا تساوق معه في تحويل لبنان إلى ساحة نفوذ لبرنامج طهران في المنطقة، وكان ميشيل عون هو الرئيس المناسب لتوجهات (حزب الله)، وعمومًا كان نشاط هذا الحزب، بتوجيه من إيران، يتركز على إجهاض استقلال لبنان عن سلطة الطاغية في سورية، وإحباط مسيرة الحرية والديمقراطية التي بدأت في آذار/ مارس 2005، بعد طرد القوى الأمنية والعسكرية “السورية” التي احتلت لبنان ثلاثة عقود.

بيد أن الاستخدام الأخطر والأسوأ، والأكثر بشاعة، للسلاح الإيراني، بيد (حزب الله) والحرس الثوري والمسميات الطائفية الأخرى، كان في مواجهة الشعب السوري منذ بدء ثورة الحرية، فرايات فلسطين والمقاومة أصبحت خداعًا مكشوفًا، وصار ترداد: “طريق القدس” تمر من القصير والزبداني والبلدات السورية الأخرى، نكتة سمجة جدًا وثقيلة دم كأصحابها.

في غضون ذلك، خلال انتشار القوة الأكبر والأهم لـ (حزب الله) في سورية، تلقّى الحزب ضربات من “إسرائيل” على الأراضي السورية، ومثلها غارات استهدفت ضباطًا من الحرس الثوري الإيراني، ولم يذهب الحزب ومرجعيته الإيرانية نحو الاشتباك مع “إسرائيل”، على الرغم من خسائرهما الكبيرة بشريًّا ولوجستيًّا، فضلًا عن تدمير قوافل الأسلحة القادمة من طهران إلى لبنان عبر سورية.

لقد حاولت أدوات إعلام الحلف “المقاوم والممانع” التغطية على الغرض الحقيقي من اِلانتشار في الجولان ومحافظة القنيطرة وسهل حوران، بادعائها مواجهة “إسرائيل”، وتأسيسًا على هذا الادعاء راحت المنابر الإعلامية الإيرانية تشتكي من الاتفاق على “المنطقة الآمنة” في جنوب غرب سورية، وفي الوقت ذاته تُطالب بتعميم ما جرى في الجنوب ليشمل الأراضي السورية كلها، رهانًا منها على إمكانية تثبيت وجودها في دمشق وحمص وحماة وإدلب واللاذقية وغيرهم، وعلى أمل أن تُمسك بمقدرات سورية على أوسع مساحة من الأرض، للتعويض عن تقهقر وجودها في محافظات جنوب غرب سورية، ولتستعيد دورها الذي سمحت به موسكو في مفاوضات آستانا، كأحد ضامني الاتفاقات حول ما يسمَى “مناطق تخفيف التوتر”، تلك الاتفاقات التي كان الخاسر الأكبر منها الشعب السوري.

ما يبيّن بشكل جليّ تهافتَ وانحطاط الادعاء الإيراني عن “مواجهة إسرائيل”، من جنوب لبنان إلى اتفاق جنوب سورية، أن إيران وحافظ أسد و(حزب الله) أبدوا قلقهم وانزعاجهم من انسحاب “إسرائيل” من جنوب لبنان عام 2000، لأنه تم من جانب واحد، دون اتفاق معهم، وكان مفاجئًا لهم؛ فاستمر (حزب الله) في التحرش بـ “إسرائيل”، من ثغرة مزارع شبعا، حتى نشوب حرب 2006، التي نتج عنها اتفاق ألزم (حزب الله) بأمن حدود “إسرائيل” بعمق 15 كم منزوعة السلاح، وهو ما لم يكن قائمًا قبل الحرب، وأوقف الحزب العمل تحت راية “تحرير مزارع شبعا”، وتفرَغ لمهمة قمع الحرية والديمقراطية في لبنان.

وفي سورية لم تدخل القوات الإيرانية وأدواتها إلا عند اندلاع ثورة الحرية، فالجولان موجود قبل الثورة، ولم تذهب إليه لمواجهة “العدو الصهيوني” فيه، فقط عندما تعرضت سلطة الطغيان في سورية للخطر من انتفاضة الشعب، هبّت إيران وأذرعها بكل طاقاتهم وإمكاناتهم واجتاحوا الأرض السورية، لأن الهاجس الذي يسكنهم هو الخوف من سقوط أداتهم المتوحشة والمستبدة في سورية، وهو خوف مشترك مع “إسرائيل”، فانتصار الحرية والديمقراطية في سورية يضع “إسرائيل” أمام تحديات استراتيجية، في بعدها الدولي، وفي مقومات تماسكها الداخلي، وساذج من يعتقد أن “إسرائيل” تخشى من الدكتاتوريات أو من القوى الظلامية، بنسخها وطبعاتها المتعددة (داعش، وحزب الله وتوابعه، وإيران الملالي في طليعتهم).

بكلمات أخيرة، جاء اتفاق جنوب غرب سورية ليكون “بطاقة صفراء” لدور إيران في “الملعب” السوري، وما تخشاه سلطة الملالي أن تتطور معالجات الوضع في سورية لرفع “البطاقة الحمراء” بالطرد النهائي لوجودها ودورها وأدواتها من الأرض السورية؛ فتكون الضربة القاضية.




المصدر