واشنطن بوست: رحبوا بعالم ما بعد أميركا


أحمد عيشة

الرئيس ترامب يجلس وحيدًا في قمة مجموعة العشرين. (فيلايب تروبا/ وكالة الصور الصحافية الأوروبية)

التقيتُ، الأسبوعَ الماضي في لندن، برجلٍ نيجيري، أعرب بإيجاز عن ردة فعل العديدين في العالم تجاه الولايات المتحدة في هذه الأيام؛ إذ قال، بمزيجٍ من الغضب والسخرية: “لقد فقد صوابَه بلدكم، أنا من أفريقيا، وأعرف أنَّه جنون، لكن ما اعتقدتُ أبدًا أنني سأرى هذا في أميركا”.

المشاعر الأكثر حزنًا صدرت من امرأةٍ إيرلندية شابة، التقيت بها في دبلن، كانت ذاهبةً إلى جامعة كولومبيا، حيث أسستْ مؤسسةً اجتماعية، وما زالت تعيش في نيويورك منذ تسع سنوات، وقالت: “لقد توصلت إلى الاعتراف بأنَّي، كأوروبيةٍ، لديَّ قيمٌ مختلفة جدًا عن قيّم أميركا هذه الأيام، أدركتُ أنني يجب أنْ أعود إلى أوروبا، إلى مكانٍ ما في أوروبا، لأعيش وأكوّن أسرة”.

لقد مرَّ العالم بنوباتٍ عداءٍ تجاه الولايات المتحدة من قبل، ولكن هذه المرّة، تشعر أنّها مختلفةٌ جدًا. أولًا، هناك صدمةٌ واضحة مما يجري، الترشيح الغريب لدونالد ترامب، الذي تبعه أو لحقه رئاسة فوضوية تمامًا. الفوضى بحالةٍ مسعورة إلى درجة أنّ جمهوريًّا جريئًا، وهو كارل روف، وصف الرئيس هذا الأسبوع بـ: “الحاقد، والمتهور وقصير النظر”، ووصف فضحه العلني للنائب العام جيف سيسيونس، بأنه: “غير عادل، وغير مبرر، وغير لائق، وغبي”.

كينيث ستار، كبير المحققين السابق في عهد الرئيس بيل كلينتون، ذهب أبعد من ذلك، واصفًا تعامل ترامب الأخير مع سيسيونس، بأنّه “واحدٌ من أكثر الأساليب الرئاسية بشاعةً وتضليلًا في المدة التي عاصرتها، منذ خمسة عقود، في عاصمة البلاد وحولها”.

ولكن هناك مظهرًا آخر لتراجع سمعة أميركا، فبحسب دراسة استطلاعية قام بها مركز (بيو) للأبحاث مؤخرًا، شملت 37 دولة؛ يعتقد الناس في جميع أنحاء العالم، بشكلٍ متزايد، أنّ بإمكانهم الاستغناء عن أميركا؛ فقد تحولت رئاسة ترامب للولايات المتحدة إلى حالةٍ أو شيءٍ أسوأ من مجرد خوف أو سخرية. لقد أصبحت غير محترمة. (22 في المئة يثقون به، مقارنة مع 64 في المئة الذين كان لديهم الثقة في رئاسة باراك أوباما في نهاية رئاسته). شي جين بينغ في الصين، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، حصلا على علاماتٍ أعلى قليلا من ترامب، لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حصلت تقريبًا على ضعف الدعم الذي ناله ترامب. (حتى في الولايات المتحدة، أعرب كثيرون عن الثقة في ميركل أكثر من ترامب)؛ وهذا يكشف الكثير عن ترامب، لكنّه يكشف الكثير عن سمعة ميركل، وإلى أيّ مدى انتقلت ألمانيا منذ عام 1945.

تمكَّن ترامب من أنْ يفعل شيئًا لم يستطع بوتين أنْ يقوم به. لقد وحّدَ أوروبا، بينما تواجه القارة تحديات ترامب، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والشعبوية، لقد حدث شيءٌ مضحك؛ إذ ارتفع الدعم لأوروبا بين سكانها، وهناك خططٌ جارية لتكامل أوروبي أعمق. إذا تابعت إدارة ترامب كما وعدت، وشرعت بتدابير حمائية ضد أوروبا؛ فإن عزم القارة سيتعزز تمامًا. تحت القيادة المشتركة لكلٍّ من ميركل، والرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون، ستتبنى أوروبا أجندةً عالمية أكثر نشاطًا. فقد انتعش اقتصادها، وينمو الآن بأسرع مما هو عليه الحال في الولايات المتحدة.

بالنسبة إلى شمال أميركا، تحدث وزير الخارجية الكندي، مؤخرًا بطريقةٍ وديّة ومدروسة، مشيرًا إلى أنَّ الولايات المتحدة قد أشارت بوضوح إلى أنّها لم تعد على استعدادٍ لتحمل أعباء القيادة العالمية، وتركت ذلك لبلدانٍ مثل كندا، للدفاع عن نظامٍ دولي قائمٍ على قواعد، وعلى التجارة الحرة، وحقوق الإنسان.

وبالنسبة إلى أمريكا الجنوبية، فقد تخلّت المكسيك عن أيّ خططٍ للتعاون مع إدارة ترامب. شعبية ترامب في المكسيك هي 5 في المئة، وهي النسبة الأدنى في البلدان التي أجرى مركز (بيو) فيها دراسته الاستطلاعية.

بدأت القيادة الصينية الاستفادة من خطاب ترامب، والسياسة الخارجية تمامًا منذ البداية، وأعلنت أنّها سعيدةٌ للعب دور الداعم الكبير للتجارة والاستثمار في جميع أنحاء العالم، وعقدت صفقاتٍ مع دولٍ من أمريكا اللاتينية، إلى أفريقيا، إلى آسيا الوسطى. ووفقًا لدراسة مركز (بيو)، مواطنو سبعة من عشرة دولٍ أوروبية، يعتقدون الآن أنَّ الصين هي القوة الاقتصادية الرائدة في العالم، وليست الولايات المتحدة.

أكثر ما يدعو إلى القلق، في نتائج مركز (بيو)، هو أنَّ انخفاض الاحترام لأميركا قد تزايد ما بعد ترامب. إذ أعرب 64 في المئة، من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع، عن وجهة نظر إيجابية بالولايات المتحدة في نهاية رئاسة أوباما؛ بينما انخفضت إلى 49 في المئة حاليًا. حتى عندما كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة لا تحظى بشعبية، كان الناس في جميع أنحاء العالم يثقون في أميركا -المكان، والفكرة- وهذا صار أقلّ صحةً هذه الأيام.

في عام 2008، كتبتُ كتابًا عن ظهور (عالم ما بعد أميركا)، وما أشرتُ فيه من البداية، لم يكن حول تراجع أميركا، وإنما صعود البقية. وسط ضيق الأفق والانعزالية، والسخافة والفوضى العارمة لرئاسة ترامب، يقترب عالم ما بعد أميركا من النجاح والإثمار، أسرع بكثير مما كنت توقعته سابقًا.

اسم المقالة الأصلي Say hello to a post-America world الكاتب فريد زكريا، Fareed Zakaria مكان النشر وتاريخه واشنطن بوست، The Washington Post، 27/7 رابط المقالة https://www.washingtonpost.com/opinions/say-hello-to-a-post-america-world/2017/07/27/aad19d68-7308-11e7-8f39-eeb7d3a2d304_story.html?utm_term=.0e71e7cb39b3 ترجمة أحمد عيشة


المصدر