المتغيّرات و”نحن”


جيرون

“العالم جميعه، وأولهم أصدقاؤكم، بدّلوا مواقفهم من النظام ورأسه، ولم يبق غيركم… فهل تستمرون في مواقفكم السابقة، وقد بتّم وحيدين؟!”.

سؤال كبير يطرح نفسه من سنوات، ويقتحم عقولنا وتفكيرنا بحثًا عن إجابات عملية تبتعد عن الشعارية إلى العقلانية.

نعم، وحين رفضت الإدارة الأميركية السابقة، ومعها لفيف كبير من الدول الأوروبية المحسوبة في خانة أصدقاء الشعب السوري، تمكين فصائل الجيش الحر، والمعارضة عمومًا من حسم الصراع عسكريًا، وإسقاط النظام السوري بالقوة، كان القرار واضحًا يتلخص بمنع الحسم العسكري من قبل الطرفين: المعارضة والنظام. ونعرف عبر الوقائع أن النظام كان يتهاوى نهاية عام 2012، ومعظم عام 2013 حتى جاءه الإنجاد من إيران وإدخال (حزب الله)، فكومة من الميليشيات الطائفية على خط المواجهات العسكرية، وإنقاذ النظام. وتكرر الحال عام 2015، حين لم تستطع إيران منع الانهيار، وتقدّم المعارضة في مناطق كثيرة، حتى كان أيلول/ سبتمبر 2015 بدخول القوات الروسية وبدء حربها الطاحنة، وما آلت إليه الأمور عسكريًا، ثم سياسيًا.

في الوقت نفسه، أوصد الباب في وجه الحل السياسي بقرار واضح من الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، التي لم تشأ وضع ثقلها فيه، ومثلها روسيا التي عطّلت صدور العديد من القرارات ضد النظام، وعملت على حمايته، ومنع سقوطه بوسائل متعددة، كان الاحتلال تتويجًا، ثم الانتقال من نتائجه إلى “لقاء أستانا” فـ “مناطق خفض التصعيد”، فتفاهمات أميركية – روسية على عقد اتفاقات تُهمّش أطراف أستانا أو تحصرها في مناطق محددة في الشمال، وصولًا إلى إدلب المختلف على من يتولى الأمن فيها حتى الآن.

عبر هذه السنوات، وتحت شعار محاربة الإرهاب كأولوية الأولويات، وبطرح ذرائع عن واقع المعارضة وعدم أهليتها لتكون البديل، والتخوّف من شيوع الأسلمة، ثم دعوتها للمشاركة في الحلف ضد الإرهاب دون اقتران ذلك بالتصدي للنظام، وأثر الموقف الرافض من قبل الائتلاف على موقعه وعلاقاته، وما يشهده من حصار متعدد الوجوه.

هذه الوقائع التي تفرضها قوى دولية متعددة قادت إلى تغييرات متتالية، أشبه بالدحرجة من النظام، ورأسه وكبار رموزه. فبعد أكوام التصريحات المتعاقبة عن عدم أهليته، ووجوب رحيله، وانتهاء دوره، ورفض مشاركته بأي مرحلة من مراحل الانتقال السياسي؛ تبدّلت النغمة وفق صيغ ملتبسة عن تفسيرات بيان جنيف 1، الهيئة الحاكمة الانتقالية وصلاحياتها، ومصير النظام والأسد، وعكست لقاءات فيينا 1، وفيينا 2 هذه التبدلات بإحلال صيغ فضفاضة عن الحوكمة، أو تشكيل حكومة انتقالية، وعن وجوب بقاء الأسد حتى بدء تنفيذ العملية السياسية، وقد حددت بما لا يقل عن ستة أشهر.

الشيء الملفت هنا أن بيان جنيف صدر في حزيران/ يونيو 2012، وحدد فترات العملية السياسية بثمانية عشر شهرًا، يفهم منها أن الأسد يمكن أن يبقى بصلاحيات ما في الأشهر الستة الأولى، ثم ينتهي دوره نهائيًا حال تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية، وقد مرّت الأشهر والأعوام، وما زال الحديث يدور في جولات جنيف الاستعراضية عن 18، شهرًا في حين تُظهر الوقائع أن تلك الدول التي كانت تصرّ على رحيل الأسد، أو عدم وجود أي دور له في المرحلة الانتقالية، راحت تعلن مواقف أخرى مغايرة تمامًا.

بعد الهزيمة في حلب على يد قوات الاحتلال الروسي، ووجود إدارة أميركية جديدة؛ ترسّخت تلك المتغيّرات بما لا يدع مجالًا للشك، أو دفن الرأس في أية رمال. فالأحداث التي تموضعت بفعل التأثير الروسي أوقفت انهيار النظام، ومكّنته ليس من التقاط الأنفاس وحسب، بل من الانتقال إلى المبادرة في عدد من المواقع التي نجح في طرد أو حصار قوى المعارضة المسلحة، وفرض مصالحات -لصالحه- في عدد من المناطق والبلدات، والقيام بعمليات تهجير واسعة.. بينما تراجع دور القوى المسلحة المحسوبة على الجيش الحر، وبرز فيها عدد من الفجوات، والصراعات، والاقتتال الداخلي، وبما يسمح للمنظمات الإرهابية” هيئة تحرير الشام” بتوجيه ضربات قاصمة، كما حدث في إدلب مؤخرًا.

الإدارة الأميركية التي عوّل البعض عليها كثيرًا تضع حصرًا جلّ اهتمامها بمحاربة وإنهاء الإرهاب، إضافة إلى حديث عام عن تحجيم دور إيران في سورية، بينما لا يعنيها كثيرًا الشأن السياسي السوري، وأقله أنه ليس ضمن أولوياتها الحالية، لذلك قامت، وعلانية، بتفويض روسيا كي تلعب الدور الرئيس في المجال السياسي، وفرض ما يعرف باتفاقات تخفيف التصعيد، وتسريب عديد الأفكار، أو جسّ النبض حول حلول سياسية تكرّس بقاء النظام بمؤسساته الرئيسة، والطاغية الأسد، ولو على الأقل لمرحلة انتقالية لم يجر تحديدها تمامًا من قبل الروس، بينما يتكرر الكلام عن مشروع روسي لتشكيل هيئة رئاسية من خمسة أشخاص، يكون الأسد على رأسها وإن بصلاحيات محدودة، أو يتفق عليها، وكذا الأمر في ما يخصّ عقد مؤتمر وطني للمعارضة والنظام، داخل سورية، برعاية وضمانة روسية.

المواقف الأميركية الأخيرة التي تعلن عن إيقاف الدعم العسكري للفصائل المعتدلة، باستثناء تلك التي تحارب الإرهاب، وتمتنع عن محاربة النظام، هي رسالة سياسية بليغة وواضحة، وتصبّ في التحرك الروسي الدؤوب على صعيد تعميم اتفاقات مناطق تخفيف التصعيد من جهة، والرهان عليها كأرضية لحل سياسي ما، من جهة أخرى.

فرنسا التي كانت مواقفها الأشد والأكثر وضوحًا من النظام ورأسه، عرفت تبدّلًا بارزًا بوصول الرئيس الجديد الذي يعلن باستمرار أنه غير معني بمحاربة النظام، وأنه يحمل مبادرة سياسية يعمل على تجسيدها، وهي تنطلق من واقع الإقرار ببقاء النظام، ويمكن أن تلتحق بهذا الموقف دول أوروبية عديدة محسوبة ضمن أصدقاء الشعب السوري.

بلدان الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، صاحبة المواقف المتشددة من النظام ورأسه تعيش أوضاعًا صعبة، وخلافات بينية خطيرة، كان الخلاف مع قطر، وهي داعم كبير أيضًا، أحد تجلياته، إلى جانب الوضع في اليمن، وانعكاس هذا الخلاف على العلاقة مع تركيا، وعلى الثورة السورية بأشكال مختلفة.

بينما تركيا تواجه ما يشبه الحصار، وتشعر أن أمنها مهدد بقيام كيان كردي على حدودها، خاصة أنها لم تصل إلى تفاهمات مع الرئيس ترامب، وبما يجعلها أكثر حاجة للتعاون مع روسيا في مسائل مختلفة، وعلى رأسها الملف السوري.

هذه المتغيّرات هي وقائع عنيدة، لا تأخذ بالحسبان تضحيات الشعب السوري وطموحاته، ولا الثوابت التي اعتمدتها هيئات المعارضة، والائتلاف أولًا، والخاصة بجوهر العملية السياسية التي تفضي إلى إنهاء النظام، ورفض وجود الأسد وكبار رموزه، حال تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية (التي يبدو أن التطورات تجاوزتها)، وبما يقتضي دراسة واقعية لهذه المتغيّرات بحثًا عن دور وطني سوري فاعل، وعن إيجاد سبل أخرى، وفق خطاب جديد تمكن الشعب السوري من نيل حقوقه المشروعة في الحرية، وإقامة النظام التعددي عبر إنهاء نظام الاستبداد والفئوية.

لعل الوطنيين السوريين بحاجة ماسة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى الحوار فيما بينهم وصولًا إلى خطاب سياسي قادر على التعاطي مع التطورات، بكل ما يقتضيه من شجاعة وابتعاد عن الشعبوية، وعبر استخدام وسائل مناسبة، بما فيها التكتيك الصائب.




المصدر