جيمس بوند وحلم السوري المقهور


ميخائيل سعد

شجعني أخي، وأنا تماديت، فبعد كل زيارة إلى تركيا كنت أزور سويسرا. في إسطنبول كنت أحاول استعادة سوريتي الضائعة منذ ثلاثة عقود تقريبًا، من خلال التواصل والنقاش والسهر والسُكرْ (شرب الكحول) مع سوريين مقيمين أو عابرين. كانت سورية محرّمة عليّ، منذ أن غادرتها فارًّا من ضعفي، وخوفي أن استسلم لضغط المخابرات وأصبح مخبرًا، كما يريدون، على الرغم من أنني لم أكن موظفًا في أجهزة الحكومة. ومع الأيام، وبعد قيام الثورة، أصبحت إسطنبول سوريتي، أخاف عليها كما أخاف على سورية التي كانت تتهدم أمام عيوننا، على مدى سبع سنوات، وكنا نستعيض عن الفعل لمساعدتها، بالأحلام والشعارات، والاعتصامات القصيرة، ورفع اليافطات التي تعلن حبنا وتعاضدنا مع المدن التي تتعرض للانتهاك والتدمير والحصار، وكنا نعود في النهاية إلى بيوتنا العامرة بالدفء والطعام واللباس “والحب”، معلنين انتصاراتنا واقترابنا من تحقيق دولة الحرية والعدالة والمواطنة، أو دولة الخلافة التي ستحقق العدل والمساواة والتنمية لجميع المسلمين فيها.

في سويسرا، كنت أتعرف على أخي، كان الفرق في العمر بيننا عشرين عامًا فقط، وكنت قد تركته مراهقًا، ولم تتح لي ظروف حياتي التعرف عليه وعلى بقية إخوتي الصغار الذين أمّهم (خالتي) كانت تهددهم بي عندما لا يطيعونها، وكانت علاقتي بهم تقتصر على إعطاء الأوامر، أو استخدام “الكفوف” مثل أي مسؤول عسكري في قطعته، لم أكن وحيدًا في ذلك، كان المجتمع كله قد “تعسكر”، في ظل حكم العسكر منذ 1963، في البيت والمدرسة والشارع والعمل، ولكن مع ذلك استطاع والدي وخالتي أن يحافظا على قيم عائلية جميلة، بين أفراد الأسرة (10 أولاد)، من خلال سلوكهما.

في سفراتي المتتالية إلى إسطنبول، كان أخي يدفع ثمن تذكرة الطائرة ذهابًا وإيابًا من إسطنبول إلى جنيف أو ميونيخ وبالعكس، وكان قد عرف اهتماماتي، غير الاستمتاع بالأكل الطيب الذي كانت تحضره زوجته، ألا وهي رؤية الأماكن الأثرية في المدن السويسرية، لذلك كان دائمًا يرافقني في زيارة مدينة أو أكثر؛ فنمضي يومًا أو بعض يوم في الأحياء القديمة في المدينة التي نزورها، لالتقاط الصور وجمع المعلومات اللازمة لكتابة مقال، أو لمتعة المعرفة فقط.

في زيارتي هذا العام، قبل أقلّ من شهر، وبعد زيارة “بيرن” المدينة التاريخية المدهشة في جمالها وتنظيمها؛ قرر أخي أن نزور مكانًا سياحيًا مشهورًا جدًا، ليس فقط في سويسرا، وإنما في أوروبا، قال: سنذهب إلى مطعم وقمة (جميس بوند).

يقع مطعم (جيمس بوند) الدوّار Piz Gloria على قمة “شيلتهورن” Schilthorn، على ارتفاع 2970 مترًا عن سطح البحر، وهو المَعلم الأبرز في القمة، وتبلغ مساحته 400 متر مربع.  يدور المطعم حول نفسه كل 55 دقيقة، وهو أعلى مطعم دوار في أوروبا. وفيه تم تصوير أول فيلم من أفلام “جيمس بوند”، في الطابق السفلي منه، (في الخدمة السرية لجلالتها) عام 1969، ومثّل فيه “جورج لازينبي”.

الحاجة إلى البطل

بعد تجوالي في “عالم بوند”، قرأت على الإنترنيت قصة أسطورته، وكيف أن البريطانيين، بعد الحرب العالمية الثانية وانكماش رقعة الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عن أراضيها، وجدوا أنفسهم في موقع المهزوم، وكانوا بحاجة إلى بطل يعوض خسائرهم، ويجعلون الشعب يتعلق به، فكان “بوند”.

كانت بريطانيا العظمى مصابة بالإحباط.. انحدار مستمر ما بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي (وتتعرض “للضربات” في جو جيوستراتيجي تحدده الحرب الباردة).

كان جيمس بوند، خاصة بعد “الصفعة” و”الصدمة” التي أصابت أجهزة الدولة البريطانية والمجتمع الإنكليزي: قضية هروب “غي برغس” و”دونالد ماك لين” العام 1951 (المسؤولين في أجهزة الاستخبارات البريطانية)، إلى الاتحاد السوفييتي، واعترافهما بأنهما كانا منذ زمن عميلين للـ KGB يهربان المعلومات الحساسة.

إذًا، كانت الأسطورة جيمس بوند نوعًا من “قيمة” أو من رمز لفخر يُستعاد.. نوعًا من “علاج” نفسي لوطن “مريض”.. لهذا كانت الملكة إليزابيث بذاتها حريصة على حضور العرض الأول لكل أفلام بوند، كنوع من التبني الرسمي لأسطورة جيمس بوند، ليس فقط المدافع عن التاج البريطاني، ولكن عن العالم الحر، مع تغير الأعداء بتغير الواقع الجيوستراتيجي: الألمان النازيين، الشيوعيين، الجريمة المنظمة… وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول، المنظمات العالمية “المغفلة”، على غرار “القاعدة”، دون أن يسميها.. إلخ.

تابعتُ معروضات متحف بوند بشغف السوري المهزوم والمكسور، فقد كنت بحاجة إلى بطلٍ افتراضي أُعلّق عليه آمالي، يرفع معنوياتي، يمنحني الأمل بالانتصار ولو بعد حين. لقد نجح النظام الأسدي الإجرامي في قتل أغلب الأبطال الحقيقيين الذين خرجوا من صفوف الشعب للدفاع عنه كـ “معن العودات”، و”باسل شحادة”، و”عامر مطر”، و”يوسف الجادر أبو فرات”، والمقدم “حسين هرموش”، والمئات غيرهم، لأنهم كانوا ضد الاستبداد والديكتاتورية. وربما لهذه الأسباب تعلقتُ، مع ملايين العرب والأتراك والمسلمين، بمسلسل “أرطغرل”، وتابعته في كل حلقاته، رغم الهبوط الفني، والتكرار الممل أحيانًا، فقد كنت ببساطة أبحث عن بطل يرفع عني الضيم والمهانة والذل، مدة ساعتين في الأسبوع، حتى لو كان بطلًا افتراضيًا، كـ أرطغرل.

كنت أحاول الهرب من التفكير بسورية، ولكنّ كلّ شيء في الدنيا كان يذكّرني بها، وبعجزي عن فعل ما يلزم لانتصار ثورتها.




المصدر