الرقة.. وما أدراك ما الرقة!


إبراهيم الزيدي

قبل أن تعقد المآسي أواصرها فوق أرواح السوريين، كانت لنا أمًّا اسمها (الرقة). (شاويّة) نسيت ملامحها في دروب التنمية البائسة، وراحت تبحث في دفتر الغياب عن أبناء مودتها! وحين وجدتهم، سرقت ظلها من هجير شمس الثقافة السائدة، وحاولت أن تكون مراحًا للأدب والفكر والفن.

في صيف عام 2010، ودعها المشاركون في الدورة السادسة من مهرجان الشعر العربي؛ فأصبحت بيوتها بلا شعراء، وشعراؤها بلا بيوت!! في النصف الثاني من كانون الأول 2010، غادرها المشاركون في الدورة السادسة من مهرجان العجيلي للرواية العربية، ولم يكتبها أحد منهم في يقينه!! في تشرين الثاني من عام 2009، استضافت الملتقى العالمي للفن التشكيلي، في دورته الثانية، لا لشيء، فقط لتعطي للصورة حقها، بعد أن أخذت الكلمة على منابرها جميع الحقوق، فلّون الفنانون المشاركون بالملتقى أجنحة الليل بالظلمة، وغادروا!! هكذا اعتادت أن تشغل نفسها بجمع الأمنيات التي لا تتحقق، فهي منذ الندوة الدولية لتاريخ الرقة 1981 وهي تختتم مهرجانًا، وتفتتح ملتقى!! إلى أن خانها حبر الكتاب، وألوان الفنانين، فتحولت من حقل أنغام، إلى حقل ألغام!! الرقة اليوم، يحدها الفرات من الجنوب، والحزن والخوف من باقي الجهات!! ورغم ذلك بقي نهرها يجر ثوب الماء، ويركض به شرقًا، تلبية لنداء أغنية شعبية، كانت الصبايا ينشدنها على ضفتيه، وهن يغسلن الصوف (شرّكَ ع العراكَ انجادك تدور الزين) فأكلت معتقلات الكآبة الوطنية كل الذين شرّقوا، وبقيت الأغنية وحيدة في انتظارهم!! مذ ذاك أصبحت (حربي على شكَر الشوارب حربي) متلازمة القهر الرقاوي المكين!! فهي كلما نهضت لترتدي ملامحها، استيقظت في نفس أحد ما.. فكرت تحريرها من الفريق الآخر!! ولم يذق أيّ منهم يقين البقاء فيها. فهي ليست واسعة كوطن، ولا ضيقة كخيمة، إنها مجرد باب يستقبل العائدين من الحب، فحولوها إلى باب يستقبل العائدين من الحرب، ونامت في شريط الأخبار!!

أمّا المذيعة الجالسة في أعلى الصورة، تلك المذيعة المثقلة بأناقتها، فما زالت تبتسم وكأنها على موعد مع الفرح في الخبر التالي!! وثمة من راح يدقّنا في جرن الكلام، ويحلل مصيرنا وفق سياسة القناة التي يتحدث منها!! ثمة تفاصيل أخرى في خلفية اللوحة، فالرقة التي أصبحت مبتدأ لا أحد يعرف موقع خبره من الأحداث، أصبحت حصّالة خوف (مطمورة) مليئة بكل أشكال الأسلحة الفتاكة، ليس أولها دبابة، ولا آخرها النفوس المفخخة بالفتاوى، والمتفجرات، أما أطفالها فقد تفرغوا لإحصاء الغارات الجوية التي تسقط من شريط الأخبار، بعد أن فقدوا حقهم في متابعة حياتهم المدرسية، والبعض منهم ناموا بعيدًا عن أحلامهم، وتركوا لأمهاتهم وجع الأمومة عاريًا، وكأن الجنة لم تجد مكانًا إلاّ تحت أقدام أمهاتنا!! تلك هي قصة المدينة التي كانت تتسول الأحلام، ووجد فيها المتطرفون كنز أحلامهم!! فأصبحت حكاية، وصرنا شهرزادها التي تنتظر الصباح، بطمأنينة مصطنعة، وحزن لم يجد البكاء الذي يحتويه.

لقد أصبح وجعنا الآن أكثر نضجًا، وأدركنا أن سوريتنا ليست ياسمين دمشق، أو فرات الرقة، ولا هي نواعير حماة، أو قلعة حلب، وهي ليست مزارًا للسيدة زينب، أو كنيسة في معلولا، سوريتي كل هذا بتاريخه، وتاريخه لا يمكن أن تصرفه أو تتصرف به الأحزاب المالية، أو العمائم، وإن طالت تحتها اللحى.




المصدر