‘الاقتصاد السوري: تجميع القطع المبعثرة’
14 آب (أغسطس - أوت)، 2017
أحمد سعد الدين
مراجعة لدراسة ديفيد باتر – (تشاذام هاوس)[1]
مقدمة
منذ انطلاق الثورة السورية، أصدرت مؤسسة المعهد الدولي لشؤون الخارجية (تشاذام هاوس/ Chatham House) مجموعةً من التقارير والدراسات التي أجراها بعض الباحثين في المعهد، حول الوضع في سورية وآفاقه المستقبلية. معظم هذه الدراسات تركزت حول البعد السياسي، حيث صدر أول تقرير في نهاية 2011، عن سيناريوهات المستقبل، تبعه تقرير في بداية 2012 عن الوضع السياسي في سورية، ثم تنوعت الدراسات لتغطي جوانب محلية (كالموضوع الكردي)، وجوانب إقليمية ودولية وغيرها متعلقة بالإرهاب والمخاطر حول سد الفرات وغيرها. من بين هذه التقارير نشر المعهد تقريرين اقتصاديين مهمّين، أنجزهما الباحث المتخصص بشؤون اقتصاد الشرق الأوسط ديفيد باتر (David Butter[2])، ونخصص هذه المقالة لمراجعة تقريره الأول الذي صدر سنة 2015[3].
أهمية التقرير
للتقرير أهمية كبيرة نظرًا إلى صدوره عن واحدة من أكثر المؤسسات البحثية البريطانية عراقةً وتأثيرًا في السياسة الغربية، إذ يقارب عمرها القرن (تأسست في العام 1920[4]). ويأتي تأثيرها الواسع من تنوع تخصصاتها وتشابك علاقاتها مع حكومات وشركات كبيرة ومنظمات غير حكومية وجامعات مهمّة، حيث يعمل في المعهد طيف واسع من رجال الأعمال والدبلوماسيين والأكاديميين والسياسيين والإعلاميين. وهذه المؤسسة هي التي أحدثت ما يُعرف بـ (قاعدة تشاذام هاوس) التي تنص على أن المشتركين في جلسة مغلقة يمكنهم استخدام المعلومات أو مناقشة القضايا التي طرحت في الجلسة مع آخرين، لكن يُمنع عليهم ذكر تفاصيل عن هوية الحاضرين لذلك الاجتماع، أو مكان الاجتماع، أو ماذا قال كل شخص من الحضور[5]. وهذا ما يشير إلى حساسية الكثير من المسائل التي تطرحها هذه المؤسسة.
وللتقرير أهمية أخرى تكمن في دقة المعلومات التي يوردها عن بنية نظام الأسد من جهة (والتي تدل على سعة إطلاع صاحب الدراسة)، وفي ربط الاقتصادي بالسياسي من جهة أخرى؛ وهذا ما يعطي نتائج البحث نكهة واقعية غالبًا ما تغيب في تقارير المنظمات الدولية كالبنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة التي تتجنب عمدًا الخوص في السياسة بحجة التخصص والمهنية، مع أن السبب الحقيقي قد يكون في الغالب حساسية التحدث في أمور السياسة، بخصوص بلدان تحكمها أنظمة لا تقيم وزنًا لحرية التعبير.
منهجية التقرير ومصادر المعلومات
يهدف التقرير إلى تحليل أوضاع الاقتصاد السوري، في فترة ما قبل الثورة، وكيف تطور في السنوات اللاحقة إلى اقتصاد حرب. بعد المقدمة ينطلق التقرير من توصيف للأوضاع الاقتصادية في السنوات الخمس الأخيرة التي سبقت اندلاع الثورة، قبل أن يباشر بمحاولة لحساب تكاليف الحرب السورية حتى نهاية 2014، محللًا بشكل مفصل تأثير الحرب على قطاعات الزراعة والصناعة والطاقة والتجارة وأسعار الصرف والمصارف، ويأخذ قطاع الطاقة حيزًا كبيرًا في التقرير، نظرًا إلى أهميته لأي اقتصاد بشكل عام، إضافة إلى أهميته في ميزانية حكومة النظام بشكل خاص. ويختم التقرير بتحليل البنية المؤسسية لما بقي من الدولة السورية مع استشرافات مستقبلية حول دور اقتصاد الحرب واستمرار الانهيار الاقتصادي في استمرار الصراع أو إنهائه.
يستند التقرير في التحليل إلى مصادر متنوعة من المعلومات، منها بيانات حكومة النظام التي استمرت في الصدور حول أسعار الصرف والميزانية وغيرها، لكن الكاتب يتعامل معها بحذر، لعدم دقتها ولأن الغاية منها هي غالبًا إعطاء انطباع بأن “الدولة السورية” ما زالت تعمل بشكل طبيعي. لكن التقرير يستند إلى مصادر أكثر صدقية، ويذكر منها بيانات الحكومة التركية ومنظمة الأغذية والزراعة. كما يسترشد بنماذج التحليل الاقتصادي التي يستعملها كثير من الاقتصاديين حول سورية، وبخاصة تلك التي يصدرها المركز السوري لبحوث السياسات.
أهم نتائج التقرير
يربط التقرير الاقتصاد بالسياسة في عرضه لأوضاع الاقتصاد في السنوات السابقة على الثورة، حيث يلمح إلى أسباب اقتصادية كامنة وراء اندلاع الاحتجاجات متمثلة بإلغاء الدولة الدعم المتعلق بالمحروقات، واتساع رقعة الفقر، ولا سيّما في المناطق الريفية، لكنه في الوقت نفسه لا يضخم العوامل الاقتصادية التي لا يعتبرها حاسمة، لكنه لا يأتي على ذكر أي من العوامل الأخرى بشكل مباشر، وللقارئ أن يستنتجها من سياق التقرير، حين يحلل بنية طبقة رجال الأعمال التي صعدت في السنوات الأخيرة السابقة للثورة، واستيلاء رامي مخلوف على حصة الأسد في معظم الاستثمارات الضخمة. ومن الملفت في التقرير أنه يلفت الانتباه إلى نقطة تخص قرارات حكومة عبد الله الدردري، برفع الدعم عن المحروقات، حيث يذكر التقرير أن الهجوم على هذه القرارات لم يكن فقط بسبب الضرر الذي طال الشرائح الأكثر فقرًا، بل أيضًا بسبب حرمان رجالات النظام من هامش الربح الذي كانوا يحصدونه، من تهريب كميات كبيرة من المحروقات، إلى لبنان وتركيا والأردن.
يتساءل الكاتب -دون أن يقدم إجابة- في التقرير عن الدور المستقبلي الذي يمكن أن تلعبه النخبة الاقتصادية التي تشكلت قبيل الثورة، وهي تمتلك، من جهة، أكبر رأسمال سوري، لكنها من جهة ثانية حصلت عليه من جراء امتيازات غير شرعية، إذ يصف التقرير الطريقة التي تمت بها تأسيس “شام القابضة”، من قبل رامي مخلوف، بتواطؤ 70 بالمئة من طبقة رجال الأعمال السوريين، بينما انضوى من تبقى في مجموعات أخرى مثل “سورية القابضة” لمحمد حمشو وغيرها. التقرير يحاول هنا الربط بين الاستيلاء الكبير على الأراضي التي قامت به “شام القابضة” عن طريق استخدام رامي مخلوف لسلطة أجهزة الأمن، وبين اندلاع شرارة الثورة وتوسعها الأول في درعا، حيث استولت “شام القابضة” على مساحات شاسعة، لإقامة مشروع المنطقة الحرة، في المنطقة الحدودية مع الأردن.
يدخل التقرير في توصيف الآليات التي تحول بها الاقتصاد السوري إلى اقتصاد حرب ويستعرض الخسائر في القطاعات المختلفة، استنادًا إلى معلومات تغطي الفترة حتى 2014، أي إنها الآن أصبحت قديمة (كان كاتب هذه المقالة قد نشر مراجعات لتقارير أشمل عن الخسائر نشرتها “جيرون” في الأشهر الماضية)[6]. لكن في تحليله للخسائر في قطاع الطاقة يقدم عرضًا دقيقًا لتوزيع حصص إنتاج البترول بين الشركات المختلفة التي كانت عاملة في سورية قبل الثورة، وهي، إضافة إلى شركة النفط السورية، شركة شل (Shell) المتعددة الجنسيات (لكنها أورو-أمريكية) وكانت لها حصة كبيرة تقارب حصة الشركة السورية، شركة توتال (Total) الغربية أيضا، شركة غلفساندس (Gulfsands) البريطانية، شركة سينوبك (Sinopec) الصينية، وشركة الصين الوطنية للبترول (China National Petroluem Corporation). وتعكس هذه الخارطة حرص النظام على عدم الاعتماد بشكل كلّي في هذه القطاع الحساس على شركة أو دولة واحدة.
على طول الخط، ينتقد التقرير التراخي الغربي إزاء سورية؛ إذ إن الخطوات الفعالة التي اتخذها الغرب اقتصرت على العقوبات التي أضرت بالاقتصاد دون أن تضر بالنظام، كما أنها دفعت النظام إلى الارتماء في أحضان روسيا وإيران، ويتحدث التقرير مرارًا عن اقتراض النظام من إيران قروضًا نقدية وعينية للتزود بالطاقة وتمويل الحرب، وبحسب وكالة الطاقة الدولية، فإنه في النصف الأول من سنة 2014، استورد النظام نحو 180 ألف برميل نفط من إيران، لكن الكميات المستوردة ارتفعت بعد ذلك. ويذكر التقرير أنه منذ تموز/ يوليو 2013 ازداد نفوذ إيران بشكل كبير، بعد توقيع اتفاقية القرض الإيراني لمساعدة البنك المركزي على الحد من تدهور العملة وتحسين استقرار السوق، وكانت قيمة القرض نحو 4,6 مليار دولار، منها 3,6 مليار مخصصة لاستيراد البترول ومليار واحد لباقي المستوردات. لكن القرض أُنفق بالكامل في نهاية 2014، ويفترض الكاتب أن التمويل الإيراني لم يتوقف، لكنه يأتي بشروط سياسية واقتصادية.
مناقشة وخاتمة
لا يطرح التقرير -من المقدمة إلى الخاتمة- توصيات محددة، وإنما يختم بطرح سؤال كان قد كرره في أكثر من موقع في التقرير بشكل أو بآخر، والسؤال هو عن الطريقة التي سينهار فيها النظام، وعن دور الاقتصاد في ذلك الانهيار، وتساءل: هل سيكون انهيار الاقتصاد مقدمة للانهيار العسكري للنظام، أم أن استمرار الخسائر العسكرية للنظام هي التي ستؤدي إلى انهيار اقتصادي تام؟ لا بدّ أن هذا التساؤل كان ابن تلك المرحلة، فالتقرير يعود لسنة 2015 أي في السنة التي حققت فيها المعارضة تقدمًا ملحوظًا في جبهات مهمة، قبل التدخل الروسي. وهذا يعني أنه ربما أضحى سؤالًا مُتَجَاوَزًا، إلا إذا وسعنا دلالته ليشمل الدول الداعمة للنظام أيضًا وقدرتها على المضي قدمًا في دعمه اقتصاديًا بلا حدود.
ولكن في المقابل، مع استمرار النظام ممثلًا للدولة السورية في المحافل الدولية، ومع استمرار تلقيه الدعم من روسيا وإيران، فلا بد أن نتخيل أن هاتين الدولتين تتوقعان حصادًا ما في نهاية المطاف. وإنْ كانت الأحداث الأخيرة تشير إلى أن الغرب سيعترف لروسيا بحصة كبيرة، فما هي حصة إيران التي يبدو أن هناك إصرارًا أميركيًا على إنهاء نفوذها في سورية؟ هل تكون التسهيلات التي يقدمها النظام للإيرانيين في مواضع التملك والجنسية هي من بين الأثمان التي يدفعها النظام مقابل استمرار الدعم الإيراني له؟ وهل ترى إيران أنّ ذلك هو الطريقة الوحيدة لاستمرار نفوذها في سورية، في حال أُجبِرت ميليشياتها على الخروج منها؟ ربما! لكن هذا ما يجب أن يدفع قوى الثورة والمعارضة على دراسة ما يقدمه النظام من تسهيلات لإيران وإدراك الأبعاد القانونية لها.
[1] – تقرير الدراسة موجود باللغة الإنكليزية على الرابط التالي: https://www.chathamhouse.org/sites/files/chathamhouse/field/field_document/20150623SyriaEconomyButter.pdf .
[2] – ديفيد باتر هو مسؤول قسم الشرق الأوسط وشمال افريقيا في تشاذام هاوس، منذ 2012، وعمل قبلها مديرًا لقسم الشرق الأوسط في وحدة مخابرات الاقتصاد (Economist Intelligence Unit) التابعة لمجموعة الاقتصادي (Economist Group) وهي شركة إعلامية بريطانية متخصصة بشؤون السياسة والاقتصاد والأعمال وتصدر المجلة المشهورة “الاقتصادي (The Economist)”.
[3] – سنقدم في القريب العاجل مراجعة لتقريره الثاني، وهو بعنوان “بلسمة اقتصاد سورية”.
[4] – بحسب موسوعة (ويكيبيديا) الصادرة بالإنكليزية، صنفت جامعة بنسلفانيا الأمريكية تشاذام هاوس، ثاني أكثر مؤسسة مؤثرة في مجال الخبرات المتنوعة، حيث تتنوع إصداراتها بين السياسة والاقتصاد والسياسات الاجتماعية والتكنولوجيا والمسائل العسكرية والثقافة وغيرها.
[5] – تم وضع هذه القاعدة لتسهيل مناقشة قضايا حساسة وخلافية، بشكل منفتح، دون التسبب بإحراج للمشاركين.
[6] – نشرت (جيرون) ثلاث مراجعات سابقة، تضمنت تقديرات لحجم الخسائر وتكاليف إعادة الإعمار بالاستناد إلى تقارير أكثر حداثة، أصدرتها منظمات هي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الأغذية والزراعة.
[sociallocker] [/sociallocker]