ضحايا القمع المقدس… إيران من الداخل


علاء كيلاني

“بالنسبة إليّ -بصفتي أمًّا- فإن فكرة أن يكون ابني في الحبس الانفرادي، وأن يتعرض لهذه المحنة، أمرٌ لا يُحتمل. قلبي مع ابني في كل ثانية، قلبي أيضًا مع أبنائه الذين حُرموا من حبّه وحنانه. أعتقد أن الأشخاص الذين يوجد أحد أفراد عائلتهم في السجن، ويواجه مخاطر تهدد حياته، يدركون طبيعة المعاناة التي نتعرض لها”. قالت السيدة عزة، وأضافت: “كيف يمكن أن أتحمل أن يكون ابني معتقلًا في ظل هذه الظروف غير العادلة التي تضطره إلى خوض إضراب عن الطعام، حتى يعي المسؤولون والرأي العام أبعادَ قضيته، ويضمن احترام حقوقه؟ لا يمكن أن يتصور المرء كم هو مؤلم أن تأكل، وابنك يخوض إضرابًا عن الطعام! لا يمكن حتى أن ابتلع الطعام. خلال إضرابه الذي استمر مدة سبعين يومًا، لفّني الحزن ولم أعد قادرة على الأكل؛ ولهذا فقدت الكثير من وزني”.

بقي سجين الرأي الإيراني محمد علي طاهري -كما تقول والدته عزة- قيد الحبس الانفرادي مدة خمس سنوات، أضرَب خلالها عن الطعام أكثر من عشر مرات احتجاجًا على احتجازه. لكن “طاهري” الذي اعتُقل واتهم رسميًا بارتكاب عدة جرائم، منها إهانة المقدسات، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات؛ حُكم عليه مجددًا بالإعدام، في تموز/ يوليو 2015، لإدانته بـ “نشر الفساد في الأرض”، من خلال معتقدات وممارسات وصفتها السلطات، بأنها “منحرفة”، وتشجع على “إطاحة ناعمة” بالحكومة.

تندرج هذه التهم، وفق هيئات حقوقية مستقلة، ضمن إطار ما يعرف بـ “التلفيق الرسمي”. ومع أن حكم الإعدام الذي صدر بحقه ألغي، إلا أن قضيته لم تنته، فقد حُولت إلى محكمة أخرى، من أجل تعميق البحث، كما تقول السلطات؛ ما يعني أنه قد يواجه الحكم ذاته مرة أخرى.

لا تشكل قضية “طاهري” حالةً فريدة في إيران؛ فهي واحدة من مئات القضايا التي تمس حقوق الإنسان، والانتهاكات التي تتعرض لها، في بلد يخضع لحكم ثيوقراطي مفرط في انغلاقه، كثيرًا ما مارس القتل والعنف والاضطهاد، بعيدًا عن الأضواء، ضد من يصفهم بـ “أعداء الثورة”، أو ضد من يرى فيهم خطرًا على مستقبل نظام الملالي واستقراره.

من الواضح، أن ثمة تباينات حادة، تزيد الهوة اليوم بين سلوك النظام، وخطابه السياسي، تبدو جلية، كلما أمعنا النظر، ودققنا أكثر في خفايا الوضع الداخلي وممارسات الطبقة الحاكمة. ففي الوقت الذي تضخ منابر الملالي لرعاياها سيلًا من المحفزات، حول مزايا السلطة الراهنة، ودعمها للديمقراطية، وصناديق الاقتراع، والانتخابات النزيهة، وحقوق الإنسان، كمبادئ ملزمة؛ تشن الهيئات القضائية والأجهزة الأمنية، في الوقت ذاته، حملات ضارية تستهدف الذين يرفعون أصواتهم، مدافعين عن حرية التعبير وحقوق الإنسان والمجتمع، سواء عن طريق تشويه سمعتهم، أو اعتقالهم في معظم الأحيان.

فإلى جانب “طاهري”، هنالك المئات ممن تم إعدامهم أو توقيفهم ظلمًا، بتهم مفبركة. على سبيل المثال، يقبع الآن في السجون، ناشط حقوق الإنسان أراش صادقى الذي يقضي حكمًا بالسجن لمدة 19 سنة لإدانته بتهم، أبرزها إرسال معلومات إلى “مقر الأمم المتحدة الخاص/ المعني بوضع حقوق الإنسان في إيران”، وإلى عدد من أعضاء البرلمان الأوروبي. ومع أن حالته الصحية حرجة، إلا أن السلطات الأمنية امتنعت عن نقله إلى مستشفى خارج السجن، انتقامًا منه، لإضرابه عن الطعام، في الفترة الواقعة ما بين تشرين الأول/ أكتوبر 2016 وكانون الثاني/ يناير 2017؛ احتجاجًا على تقييد حرية زوجته التي اعتُقلت هي الأخرى، بسبب قصة خيالية عن عقوبة الرجم.

الأغرب في هذا الملف، توقيف نركس محمدي التي ترأس “مركز المدافعين عن حقوق الإنسان في إيران”، والحكم عليها بالسجن لمدة 16 سنة بسبب أنشطتها الحقوقية والإنسانية والاجتماعية، وعقدها للقاء، مع كاثرين أشتون، المسؤولة السابقة عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بمناسبة (اليوم العالمي للمرأة)، في عام 2014.

علاوة على ذلك، تم توقيف راحله راحمی پور لمدة سنة، بعد أن قدمت شكوى للأمم المتحدة، بشأن اختفاء شقيقِها وابنته بشكل قسري، خلال ثمانينيات القرن الماضي.

كما حُكم على علي رضا فرشي، بالسجن 14 سنة، وهو من أبناء الأقلية التركية الآذرية، لكتابته رسالة إلى “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، يطلب فيها تنظيم ندوة محلية بمناسبة (اليوم العالمي للغة الأم).

في مطلع الشهر الجاري، دانت منظمة العفو الدولية تردي حقوق الإنسان في إيران، وعدم إقرار العدالة والإنصاف، في ما يتعلق بعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وحوادث الاختفاء القسري التي تقع على نطاق واسع. واستغربت المنظمة، كيف أن الإعلام الحكومي يصر على أن يتهم ناشطي حقوق الإنسان -بشكل عام- ودون تدقيق، بأنهم عملاء لجهات أجنبية، ويصفهم أحيانًا بالخونة.

وقد شكك فيليب لوثر -وهو مدير البحوث وأنشطة كسب التأييد للشرق الأوسط وشمال أفريقيا داخل المنظمة- بصدقية الرواية الرسمية لأسباب توقيف الناشطين والأحكام التي خضعوا لها، ورأى أنّ “من المفارقات المؤلمة، أنْ تتفاخر السلطات الإيرانية بتعزيز علاقاتها مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بخاصة في أعقاب الاتفاق بشأن البرنامج النووي، بينما تُعامل المدافعين عن حقوق الإنسان ومن يتصل منهم بهاتين المنظمتين، كمجرمين”.

عادةً ما تُعقد محاكمات المدافعين عن حقوق الإنسان في طهران، وسط مناخ من الخوف؛ حيث يواجه محاموهم عددًا من الإجراءات التي تنطوي على انتهاكات، كمحاولة السلطات المعنية الحد من زياراتهم للمتهمين أو الاتصال بهم على انفراد، وتأخير اطلاعهم على ملفات القضايا. وقد واجه بعض المحامين الذين احتجوا على التعذيب الذي يُمارس بحق موكليهم، وعلى محاكماتهم الجائرة، أشكالًا ضارية من المضايقات، كمنعهم من مزاولة مهنتهم، أو زجهم في السجون، مثل ما جرى مع محامي حقوق الإنسان عبد الفتاح سلطانى الذي يواجه حكمًا بالسجن لمدة 13 عامًا، للسبب ذاته، ويقبع خلف القضبان، منذ عام 2011.

في داخل إيران، كما في خارجها، حيث تساعد ميليشيات تابعة لها الأسدَ في قتل شعبه، تتصدع صورة نظام سياسي جمهوري يبسط سلطته على 80 مليون مواطن، يتنوعون عرقيًا وثقافيًا، لكنهم ممنوعون من ممارسة النقد، والتفكير والتعبير عن مشاعرهم علنًا. إنها صورة مُحبِطة، للحريات الشخصية والديمقراطية ولحقوق الإنسان. صورة تؤكد أنه من السابق لأوانه الحديث عن إمكانية إجراء أي إصلاحات تضع حدًا لهذه الانتهاكات، أو تُدخل تحسينات على واقع أناس، يرون أنفسهم عرضة للتوقيف في أي وقت، بأمر سلطة دينية مقدسة، من شأن رعونتها ووحشيتها أن تقوض انتعاش أي أمل لذلك، في المدى القريب.




المصدر