‘“سلاسل” جنيف وأستانة بين الحاجة والعبث’
17 آب (أغسطس - أوت)، 2017
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
المحتويات
مقدمة
أولًا: “سلسلة” جنيف
ثانيًا: “سلسلة” أستانة
ثالثًا: أسباب العقم
رابعًا: البدائل
خامسًا: خاتمة
مقدمة
عُقدت مؤخرًا الجولة السابعة من مؤتمر جنيف، المعني بالسلام في سورية، والذي كانت أولى جولاته قبل نحو خمس سنوات. كما عُقدت في العاصمة الكازاخية الجولة الخامسة من مؤتمر أستانة، الذي كانت أولى جولاته قبل نحو سنتين، وعلى الرغم من هذه الكثافة والتواتر من المؤتمرات، إلا أن السلام في سورية ما زال بعيدًا والحلول مُعطّلة والنتائج شبه عقيمة.
هذا العقم في إنتاج الحلول للقضية السورية، أثار السوريين أكثر من غيرهم، الذين باتوا يخشون أن تستمر “سلاسل” المؤتمرات إلى ما لا نهاية، وأن تستمر مأساتهم لسنوات أخرى عجاف، وقد تكون هذه المخاوف مُبررة، خاصة أن مواصفات المؤتمر الذي يمكن أن يُحقق نتائج حقيقية لا تتوافر لهذين المؤتمرين، حتى الآن على الأقل.
أولًا: “سلسلة” جنيف
بدأت “سلسلة” مؤتمرات جنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012، عندما استضاف مكتب الأمم المتحدة بمدينة جنيف في سويسرا اجتماعًا لـ “مجموعة العمل من أجل سورية” بناءً على دعوة كوفي أنان مبعوث الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سورية في ذلك الوقت، بعد أن وصل عدد الضحايا في سورية إلى أكثر من مئة ألف، وعدد المُهجّرين إلى تسعة ملايين، وضمّ الاجتماع ممثلين عن وزراء خارجية الكثير من الدول، من أهمها روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا والصين وقطر وبريطانيا، فضلًا عن ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية.
أُعلن في نهاية المؤتمر (بيان جنيف)، الذي نسخ خطة البنود الستة المعروفة بـ “خطة أنان”، وكان أهم بند فيه هو “إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلّها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاءً من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة”.
كان يمكن لهذا المؤتمر أن يُنهي الحرب في سورية، لكنه فشل في تحقيق ذلك لأن بنوده لم تكن مُلزمة لأحد، ولم تصدر تحت الفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن، ولم تُحدّد بصورة واضحة وصريحة مصير رأس النظام السوري، بشار الأسد، ومعاونيه ممن أجرموا بحق الشعب السوري.
تتالت “سلسلة” مؤتمرات جنيف، وبدأت تبدو منذ الجولة الثانية التي عُقدت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 أنها غير مجدية، ففي هذه الجولة التي كانت تتويجًا لمشاورات بين وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، ونظيره الروسي، سيرغي لافروف، بدأ يتّضح الخلاف بينهما، وتحيّز الموقف الروسي للنظام السوري، وطغى رفض روسيا تغيير النظام كشرط مسبق للمفاوضات، وكذلك إصرارها على دعوة إيران إلى المؤتمر، وهو الاقتراح الذي رفضته الولايات المتحدة والمعارضة السورية، خاصة أن إيران رفضت الاعتراف أساسًا بما صدر عن مؤتمر جنيف 1 حول الانتقال السياسي في سورية.
فشلت الجولة الثانية بالجمع بين وفدي المعارضة والنظام، ولم تُناقش كيفية تنفيذ) بيان جنيف (1) لتأليف حكومة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة وإنهاء الحرب وبدء التأسيس لجمهورية سورية جديدة، واتهم المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي النظام بإفشال المؤتمر لرفضه مناقشة بند هيئة الحكم الانتقالي، وإصراره على مناقشة بند الإرهاب فقط، كما اتهمته الولايات المتحدة بتعطيل المفاوضات، وجرى تعليق هذه الجولة.
رفضت المعارضة السورية المشاركة في الجولة الثالثة من “سلسلة” جنيف، لأن النظام السوري لم يُنفذ الشروط التمهيدية الإلزامية للمفاوضات، من وقف الغارات الجوية، وفكّ الحصار عن المدن، وإطلاق سراح المعتقلين، وبعد وساطات قررت حضور المؤتمر، ليس من أجل التفاوض مع النظام، وإنما لشرح وجهة نظرها للمبعوث الأممي، فعُقدت الجلسة الثالثة في شباط/ فبراير 2016، وهدّدت الهيئة العليا للمفاوضات بأن تُعلق مشاركتها إن لم يتوقف النظام عن قصف المدنيين في مدينة حلب مدعومًا بالطيران الروسي، وهو ما لم يحصل، ما دفع مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي مستورا بعد يومين للإعلان عن تعليق المفاوضات.
بدأت جولة جنيف الرابعة برعاية الأمم المتحدة في 23 فبراير/ شباط 2017 في مقرّ المنظمة الأممية بمدينة جنيف السويسرية، وانتهت يوم 3 مارس/ آذار 2017، وحضرها وفدا النظام والمعارضة السوريين، وجاءت هذه الجولة في عقب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في سورية، في كانون الأول/ ديسمبر 2016، وفي عقب جولتين من المفاوضات بين النظام والمعارضة المسلحة في أستانا برعاية روسيا وتركيا وإيران.
واجهت المفاوضات صعوبات كثيرة، وانتهت من دون نتائج ملموسة، لكن دي مستورا رمى بمبادرة (السلال الأربع) في مؤتمره الصحفي الختامي، حيث وزّع المفاوضات على أربع شرائح (سلال): الأولى للقضايا الخاصة بإنشاء حكم غير طائفي خلال ستة أشهر (وهو تعبير ظهر في بيان فيينا 2 عام 2015)، والثانية للقضايا المتعلقة بوضع دستور (خلال ستة أشهر أيضًا)، والثالثة متعلقة بإجراء انتخابات بإشراف أممي (خلال 18 شهرًا)، والرابعة لمكافحة الإرهاب.
أصرّ دي مستورا على عقد جولة خامسة في آذار/ مارس 2017 لمناقشة هذه (السلال)، وحثّ طرفي النزاع على الحضور، لكنه هو نفسه غاب عن الافتتاح، وانشغل باجتماعات في الرياض وموسكو وأنقرة، وأصرّ النظام السوري على بحث (سلّة) الإرهاب فقط دون غيرها، ورفض بحث مجموع السلال على التوازي، وانهارت الجولة بسرعة بسبب رفض النظام مناقشة السلال الثلاث الأخرى، وخاصة سلّة الحكم وتغيير النظام السياسي، وسارع دي مستورا للإعلان بأن (السلال) قابلة للتطوير، وأنه ينتظر ردّات أفعال الأمم المتحدة.
الخطوة الوحيدة الملموسة في هذه الجولة من “السلسلة” كانت تشكيل دي مستورا ما يُدعى بـ “المجلس النسائي الاستشاري”، الذي وصفه ائتلاف المعارضة بأنه كوتا الأسد الناعمة في جنيف، وهو مجلس لم تقبل به الهيئة العليا للمفاوضات وائتلاف قوى المعارضة السورية، ولم يُعرف الهدف الحقيقي منه، سوى المزيد من التعقيد للمفاوضات. وانتهى المؤتمر بهذه النتيجة، وقام المبعوث الأممي قبل نهاية المؤتمر بتحديد موعد لإجراء جولة جديدة من المفاوضات.
الجولة السادسة التي عُقدت في أيار/ مايو 2017 لم تكن أنجح من سابقتها، ولم توصل إلى مفاوضات مباشرة، ولم ينتج عنها أي تقدّم يُذكر، ولم يقبل النظام بمناقشة سوى سلّة الإرهاب، وكل ما نتج عنها هو أن دي مستورا فاجأ الحضور بأنه ينوي تأليف لجنة دستورية وقانونية، يُشرف عليها مكتبه، وتضم بعضًا من المعارضين وبعضًا من النظام، إضافة إلى أطراف أخرى، لجنة غامضة في أهدافها وآليات وأسباب تشكيلها، وأعربت المعارضة عن خشيتها من أن ينسف وجود هذه اللجنة وجود الهيئة العليا للمفاوضات وكل وفد المعارضة.
انتهت في تموز/ يوليو 2017 الجولة السابعة من “سلسلة” مفاوضات جنيف، ولم تُحدِث أيّ خرق لافت، ولم تستطع كسر الاستعصاء الذي تعيشه المفاوضات بين المعارضة السورية والنظام، بل كانت في رأي المعارضة السورية “غير ذات معنى”.
انتهى جنيف 7 دون حدوث أي تقارب في المواقف بين وفدي النظام والمعارضة بشأن الانتقال السياسي ومكافحة الإرهاب، واتهمت المعارضة النظام بأنه يرفض نهائيًا الانخراط في العملية السياسية في جنيف، وما يزال يستخدم ذريعة الإرهاب من أجل التهرب من استحقاقات العملية السياسية، وأيّدها نسبيًا المبعوث الأممي لسورية، الذي قال إن النظام لا يريد أن يُيسّر المفاوضات؛ لكنّه لم يستسلم، بل حاول تحويل الجولة إلى نقاشات تقنية دستورية، ووصف المفاوضات بشأن مكافحة الإرهاب بأنها مفيدة.
المحصلة النهائية لمفاوضات جنيف، عبّر عنها المبعوث الأممي، دي مستورا، في نهاية الجولة السابعة حين قال “إن مجمل ما نفعله في جنيف ما هو إلا إجراء مقاربات ممكنة بين وفد النظام ووفد المعارضة، وإعداد الوثائق اللازمة لسورية المستقبل، تحضيرًا لحلٍّ مُحتمل قد يأتي بصورة مفاجئة، وينجم عن توافق دولي لإنهاء المأساة في سورية”، أي حوّل “سلسلة” جنيف من منصّة جادّة لوقف الحل العسكري وبدء الانتقال السياسي، إلى منصّة تعمل للمدى المستقبلي البعيد.
ينتظر السوريون الآن الجولة الثامنة من “سلسلة” مؤتمرات جنيف المتوقع عقدها في أيلول/ سبتمبر 2017، وليس في جعبة جميع الأطراف أي شيء جديد يمكن أن يُقدّموه ويساهم في تحقيق تقدّم في المفاوضات، خاصة أن النظام يتمسّك بمناقشة محاربة الإرهاب فقط، ليُدجّن المعارضة المسلّحة، ويرفض نهائيًا مناقشة الانتقال السياسي، وتدعمه في موقفه هذا روسيا، التي لم يعد يهمّها نجاح جنيف بعد أن تبنّت مسارًا آخرًا في أستانة، تُهيمن عليه بالكامل وتتحكم في جميع تفاصيله.
ثانيًا: “سلسلة” أستانة
حاول الروس عبثًا عقد مشاورات ولقاءات في العاصمة الروسية موسكو بين الطيف المعارض السورية (اجتماع موسكو 1 وموسكو 2)، من أجل توحيد الرؤى والأهداف، وتشكيل وفد مشترك يسهل التفاوض معه، وبعد أن أسدل الستار على لقاءات موسكو، دون أن تُسفر عن أي نتائج، وفي محاولة لفرض مسار آخر موازٍ لمسار “سلسلة” جنيف، قررت روسيا عقد مؤتمر في العاصمة الكازاخية أستانة لجمع طرفي الصراع السوري بصورة أساسية، وجمع بعض الأطراف الإقليمية المنتقاة، وحاولت إقناع الولايات المتحدة بصورة خاصة، وبعض الدول الأوروبية بصورة عامة، بأن تتبنى هذا المؤتمر، وهذا ما فشلت به؛ فالولايات المتحدة رفضت أن تكون شريكًا في هذا المؤتمر بأي صيغة، حتى أنها لم تهتم بأن تكون مراقبًا، وبقي المؤتمر روسي التحكّم، ضبابي الأهداف، ضعيف الضمانات.
افتُتحت “سلسلة” أستانة بعقد أول مؤتمر في أيار/ مايو 2017، وجاء بعد سقوط حلب، وقبلها المصالحة التركية- الروسية، وأخذ معنىً ودورًا آخر بحضور الفصائل المسلحة وبمشاركة تقنية ورمزية من هيئة التفاوض، فيما رفض ائتلاف قوى الثورة والمعارضة الحضور نهائيًا، وكان سقف مطالب بعض المعارضة الإشكالية (المنصّات) منخفضًا جدًا إلى درجة أنها لم تستطع أن تُقنع المعارضة السورية بقبولها ضمن تياراتها أساسًا، وانتهى المؤتمر دون تحقيق أي تقدّم على صعيد توحيد رؤى المعارضة.
لم يمضِ وقت طويل حتى دعت موسكو من جديد إلى جولة جديدة من “سلسلة” أستانة، وعقد “أستانة 2” في شباط/ فبراير 2017، بعد إعلان روسيا عن اتفاق لوقف لإطلاق النار في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2016، تضمنه هي ومعها كلٌ من تركيا وإيران، وحضر اللقاء وفد من المعارضة ووفد من النظام، وأعلنت روسيا أن الحوار السوري- السوري المباشر لا يزال بعيدًا، لأن الثقة معدومة بين الطرفين. وفي ختام اللقاء جرى اتفاق بين روسيا وإيران وتركيا على إنشاء آلية لمراقبة وقف إطلاق النار، لكن لم يصدر أي بيان ختامي، لأن أحدًا من الضامنين لم يكن قادرًا على تقديم المزيد من المعلومات عما يُقصد بآلية مراقبة وقف إطلاق النار، ولا تحديد نطاقها ولا زمنها، ولا حتى من سيشارك فيها، مع رفض المعارضة السورية وجود إيران كضامن لأي اتفاق، وإصرارها على الإفراج عن المعتقلين، مع استمرار خروقات النظام وروسيا لوقف إطلاق النار؛ وجرى في نهاية اللقاء تحديد موعد آخر لجولة أخرى من هذه “السلسلة” من المؤتمرات.
في آذار/ مارس عُقدت الجولة الثالثة من “سلسلة” أستانة، على الرغم من مقاطعة المعارضة السورية لهذه الجولة، بسبب عدم تحقيق شروط تمهيدية وضعتها كشرط لازم لاستمرار المفاوضات، على رأسها أن يوقف النظام السوري عنفه وقصفه للمدنيين، وأن يُطلق سراح المعتقلين ويفكّ الحصار عن المناطق المحاصرة، وهو ما لم يتحقق لها فقاطعته؛ لكن الاجتماع عُقد بمن حضر، وجرى الاتفاق خلاله على تشكيل لجنة ثلاثية تضم كلًا من روسيا وتركيا وإيران لمراقبة الهدنة، ورصد الانتهاكات، والسعي لخفض عددها، وناقشت الجولة حماية الآثار والمعالم التاريخية الموجودة في سورية من دون أن تتطرق للقضايا الأهم كالتغيير السياسي أو إطلاق سراح المعتقلين أو فكّ الحصار عن المناطق المحاصرة، فيما استمرت المعارضة السورية برفض وجود إيران كضامن لأي اتفاق، وطالبت بخروج مقاتليها ومرتزقتها من سورية، وخاصة ميليشيات حزب الله اللبناني التي تحتل أجزاءً من سورية وتساند النظام بصورة عنيفة.
تواصلت “سلسلة” أستانة، فعقدت الجولة الرابعة في أيار/ مايو 2017، وكانت اجتماعاتها التمهيدية قد عُقدت في العاصمة الإيرانية طهران، وفي ختام هذه الجولة وقّعت الدول الراعية مذكرة تفاهم لـ “تخفيف التصعيد”، ضمن أربع مناطق في سورية، وانسحب وفد المعارضة في البيان الختامي احتجاجًا على دعوة إيران للتوقيع على البيان، وأصرّ على استبعاد إيران من الدول الضامنة، بوصفها “شريكة للنظام السوري في الإجرام”.
رأى البيان الختامي أن إنشاء مناطق تخفيف التصعيد يهدف إلى وقف العنف والتأسيس لظروف مواتية تدعم العملية السياسية في سورية، لكن لم تُكشف أي خرائط، ولم تُعلن آلية مراقبة وقف إطلاق النار، كما لم تُحدّد بدقة المناطق المعنية بهذا الاتفاق سوى أنها إدلب وشمالي حمص والغوطة الشرقية والجنوب السوري. وقبل اختتام المؤتمر، أُعلن عن جولة جديدة في تموز/ يوليو 2017.
في الجولة الخامسة من هذه “السلسلة”، والتي عُقدت في موعدها، أخفقت الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، في تحديد مناطق وقف إطلاق النار، وقاطعت هذا الاجتماع جميع فصائل المعارضة السورية المسلحة العاملة في جنوبي سورية، وحاول الروس الضغط على المعارضة السورية على أمل تمرير اتفاق يُعرقل المخطط الأميركي الذي بدأت تتضح معالمه شيئًا فشيئًا خلال الشهرين الأخيرين.
حاول الروس ترسيم حدود مناطق تُطبّق عليها “وحدها” هدنة طويلة الأمد في سورية، هدنة تكون مقدمة لحلول سياسية وسطية يفرضها الروس وفق رؤيتهم، لكن خمس جولات في العاصمة الكازاخية لم توصل الروس إلى غايتهم، ولم يستطيعوا جمع المعارضة والنظام في قاعة واحدة.
ثالثًا: أسباب العقم
في أستانة، عجزت روسيا عن جعل مسارها بديلًا عن مسار جنيف، وأخفقت في تفعيل ما أسمته “مناطق منخفضة التوتر”، وعجزت عن إرغام المعارضة السورية المسلحة على الحضور، ولم تستطع أن تُقنع المعارضة السورية بقبول إيران راعيًا لأي هدنة أو وقف لإطلاق النار.
الفائدة الوحيدة، ربما، لمؤتمر أستانة، هو أنه، وبعد خمس جولات، أظهر أن إيران ضعيفة، لا تتمتع بالسطوة التي يظهر بها الروس والأتراك؛ فالروس قادرون على التحكم في النظام السوري وقواته المسلحة، والأتراك قادرون على التحكم في عديدٍ من فصائل المعارضة المسلحة السورية، بينما لا تتحكم إيران إلا بميليشيات غير سورية، لبنانية وعراقية وأفغانية، تملأ الأرض السورية، وتؤيد روسيا وتركيا خروجها من سورية في أي اتفاق مُرتقب.
قد يبدو أن إشراك إيران في لقاءات أستانة كضامن للنتائج، هو مجرد تعويض معنوي لها، ووسيلة لإخراجها من المعادلة دون أن تظهر ضعيفة منبوذة، لكن في واقع الأمر، إيران ليست من النوع الذي يستسلم، وهي مستعدة لأن تعمل بالخفاء عبر أيادٍ أخطبوطية تمتلكها في المنطقة، وفي العراق ولبنان وسورية بصورة خاصة، ومن المشكوك فيه أن تكون الصورة الضعيفة لإيران في أستانة هي الصورة الحقيقية للقدرة الإيرانية، خاصة أنها ماهرة في اللعب في المناطق القلقة في العالم.
كذلك، فشل أستانة في جذب الأميركيين والأوروبيين وإثارة اهتمامهم؛ فالولايات المتحدة لم تمنح روسيا جائزة مجانية، ولن تُسلّمها ريادة الحلّ والعقد في القضية السورية، كما أن أوروبا تُدرك أن “سلسلة” أستانة بضاعة روسية لا تصلح أن تكون نواة لحلّ دولي متوازن مرضٍ لجميع الأطراف، خاصة مع وضع روسيا نهائيًا نفسها كحليف للنظام في وجه معارضته.
في “سلسلة” جنيف، وبعد كل جولة، كان المبعوث الأممي يقول إن المفاوضات لحَظت تقدّمًا، وأن أحدًا لم يتوقع نجاحًا كبيرًا لها، لكنها كانت مفيدة وأحرزت نجاحًا طفيفًا، ولا ينبغي التقليل من شأنها، وهو ما لم يلمسه أي من الأطراف المراقبة للمؤتمر، ونفته الأطراف السورية المتحاربة بصورة علنية.
حاول دي مستورا في كلّ جولة أن يُحمّل المعارضة السورية جزءًا من مسؤولية عدم إحراز تقدم مهم، لأنها لم تتوحّد مع منصّات أخرى تُصرّ المعارضة السورية على أنها منصّات تعمل تحت مظلة النظام، خاصة منصّة موسكو، وحزب (الاتحاد الديمقراطي الكردي) الذي استُبعد من كل جولات مؤتمر جنيف نتيجة الرفض التركي.
خلال مؤتمرات جنيف، قدّمت المعارضة السورية ملفات مهمة عديدة، بعضها متعلق بالمعتقلين، وبعضها بتفاصيل المرحلة الانتقالية، وأخرى بالإعلان الدستوري والدستور، وغير ذلك، لكن المبعوث الأممي دي مستورا لم يهتم بأي من هذه الوثائق، وراح يُشكّل اللجان وفق هواه، سواء اللجان الاستشارية النسائية، أو الأمنية، أو الدستورية والقانونية، وكأن لا شيء بين يديه ويريد أن يبني كل شيء من الصفر.
كانت طبيعة وطريقة وكثافة حضور مندوبيّ الدول المعنية بالقضية السورية، أوروبية كانت أم عربية، مؤشرًا مهمًا على مدى أهمية النسخ الأخيرة من جنيف؛ فوجود هؤلاء في السابق كان متواضعًا وشكليًا، وتدخلهم شبه نادر، ولقاءاتهم بأطراف الصراع السوري بروتوكولية، ولم تتدخل أي من هذه الدول بأي طريقة لمنع فشل أي جولة من جولات المؤتمر، كما لم تتدخل للضغط على الروس أو حلفاء النظام لدفعه لتغيير موقفه المتمسّك بالحل الحربي.
لم يكن هناك توافق بين الدولتين الكبيرتين، روسيا والولايات المتحدة، في أي مرحلة من مراحل “سلسلة” مؤتمرات جنيف، وكل ما كان بينهما هو مجرد تفاهمات على عدم إعلان فشل جنيف نهائيًا، والاستمرار فيه حتى لو كان بلا نتائج، وهنا جوهر عدم جدوى مؤتمرات جنيف؛ فالجميع يبدو أنه يسعى للمماطلة عبر هذه الآلية، بدليل أن أي قرارات مهمة وحاسمة وقابلة للتطبيق، اتّخذت خارج مؤتمرات جنيف، وآخرها اتفاق وقف إطلاق النار في جنوبي سورية، والذي أُقرّ على هامش قمة العشرين في حزيران/ يونيو 2017 بعد لقاء الرئيسين الروسي والأميركي، واتفاق وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية بريف دمشق، والذي أقرّ في تموز/ يوليو 2017 بعد سلسلة اجتماعات في القاهرة، والذي هو اتفاق جانبي بين الروس و(جيش الإسلام) كما يتضح من التسريبات.
إذًا، فإن جنيف وأستانة، بقياس نتائجهما، هما مجرد لعبة بيد الأطراف لتمرير الوقت، فلا أحد من الدول الفاعلة، وتحديدًا روسيا والولايات المتحدة، لديه الجدية لفرض شروط على السوريين، سواء المعارضة أو النظام، أو فرض حلول بالقوة، أو حتى إقحام الفصل السابع في أي نقاشات.
رابعًا: البدائل
حتى الآن، لم تستطع مؤتمرات أستانة، ولا مؤتمرات جنيف، تقريب السلام المنشود في سورية، بل أصبحت وسيلة ضغط مستمرّ على المعارضة السورية من جانب الأطراف الدولية والإقليمية، خاصة تلك التي بدأت المعارضة السورية تشهد تراجعًا حادًا في مواقفها، وتضييقًا عليها مقابل تقارب مع النظام وسكوت عن أفعاله العنيفة، وهذا يخلق حالة من التشاؤم لدى المعارضين للنظام السوري.
على هامش ما يُشبه “الإفلاس” لـ “سلاسل” مؤتمرات أستانة وجنيف، وترجيح فشل نسخهما المقبلة، المفترض عقدها الشهر المقبل، ربما، من الأفضل للمعارضة السورية الدفع نحو بدائل، تجعل المجتمع الدولي يركز على خيارات أخرى أكثر جدوى، وعملية أكثر، لا تستند نهائيًا إلى الآليات المتّبعة في مؤتمري جنيف وأستانة؛ أي بدائل جديدة تُعدِّل الموازين والخطط، وتقترح آليات إلزامية تحوّل العبث إلى عمل جادّ، والتأجيلَ إلى فعل فوري، والأهم أن تحوّل المماطلة إلى قرارات مُلزمة للجميع، ومن جميع الأطراف.
يُعتقد أن كل ما يجري في جنيف وأستانة هو مُحاولة لتقويض مبادئ جنيف التي وُضعت قبل خمس سنوات ونيّف، والتي تقضي بتأليف حكومة سورية انتقالية جديدة ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، وهو المبدأ الذي وُضع قبل أن تتدخل روسيا عسكريًا في سورية، وقبل أن تتدهور أوضاع المعارضة السورية المسلحة وتنقسم وتخسر الكثير من المناطق.
المؤشر الأول لبديل مُحتمل ظهر عندما أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 8 تموز/ يوليو من مدينة هامبورغ الألمانية، بعد لقاء بين الرئيسين الأميركي والروسي على هامش قمة مجموعة العشرين، عن توصّل الرئيسين إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في جنوبي سورية، دخل حيّز التنفيذ بعد الإعلان بأيام.
يقضي هذا البديل بأن تتوافق أميركا وروسيا، بصورة خاصة، على حلّ للمأساة السورية، ويفرضه الطرفان فرضًا على جميع الأطراف، على أن يُكون (مؤتمر جنيف1) المتوافق عليه بين هاتين الدولتين، ومن معظم دول العالم أيضًا، الإطار الراسخ لهذا الحلّ.
المؤشر الثاني لبديل آخر ظهر عندما أعلن الفرنسيون أن لديهم مبادرة يتشاورون فيها مع الأميركيين تتمثل بإنشاء مجموعة اتصال دولية لصوغ خارطة طريق حول مستقبل سورية، يُشارك فيها الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي، وممثلون عن النظام السوري والمعارضة والأطراف الإقليمية، ويبدو أن هذه المبادرة تحظى بموافقة أولية روسية وأميركية.
يقضي هذا البديل بالبدء بعملية سلام في سورية على مستوى دولي، من خلال مؤتمر تُشرف عليه الأمم المتحدة، وترعاه الولايات المتحدة وروسيا معًا، وتضمنه الدول الأوروبية، مؤتمر يكون هدفه الأساس إخراج المقاتلين الأجانب من سورية، وتطبيق (بيان جنيف 1) المتوافق عليه، وأخذ تطلّعات السوريين للحرية والعدالة والديمقراطية في الحسبان، ويؤسس لبلد ديمقراطي آمن، ويفرض الحلول، وفق المادة السابعة من ميثاق مجلس الأمن، على الجميع بلا استثناء.
خامسًا: خاتمة
تُعوّل الأطراف الإقليمية والدولية الآن، وبعض الأطراف السورية، على اجتماع زعماء العالم المزمع عقده في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل لمناقشة مكافحة الإرهاب، وتأمل في أن يكون هذا المؤتمر حاملًا لحلول عملية للإرهاب المنطلق من الشرق الأوسط، ما يعني أنه سيحمل حلولًا للأزمة السورية المستعصية.
في حال عدم اعتماد واحد من البديلين المشار إليهما في الفقرة السابقة، من المرجّح أن تستمر “سلاسل” المؤتمرات، وقد تنشأ “سلاسل” أخرى في عاصمة أخرى، ليحضر السوريون في وقت لاحق مؤتمر أستانة العاشر، ومؤتمر جنيف العشرين، فيما يستمر تدمير سورية بشريًا واقتصاديًا وعسكريًا وإنسانيًا.
[sociallocker] [/sociallocker]