رحلت فدوى سليمان زهرة الحرية


نزار السهلي

الاتكاء على معنى الرحيل بعيدًا عن سورية لن يُبقي تحريرها حلمًا، ستصير الحال غير الحال، وسيولد في الأعماق حلم جديد، هي أول الحناجر الصادحة بالحرية.

رحلت فدوى سليمان في باريس، لم يعرفها الكثيرون باستثناء إطلالتها على الشاشة الصغيرة وبعض الأعمال الفنية، ومن ثمّ في صرخة الحرية المدوية في حمص الخالدية إلى كل الأرض، هي الثورة التي جعلتنا نكتشف أنصع ما في سورية، وأزاحت قناع التشويه والتزييف عن وجهها، وجعلتنا نكتشف أقذر ما في الأرض. هي الثورة التي صدحت فيها فدوى: “سورية بدها حرية غصبًا عنك يا أسد”؛ حتى باتت أيقونة الثورة السلمية والمعبرة الأجمل والأصدق عن شعار الثورة والإنسان السوري: “سلمية.. سورية بدها حرية”…. “لا سلفية ولا إخوان بدنا دولة مدنية”… “نحنا بدنا حرية… إسلام ومسيحية”… “يا عدرا يا أم النور شعب سورية كله يثور”.

ترحل فدوى، بعد أن أنهك المرض جسدها، وبعد أن أُنهكت الثورة بأمراضها المختلفة، ثورة بات لها إيقاع جنائزي بعد الحناجر الصادحة بالحرية، أريدَ لهذا المشهد أن يغلب على وقفة التمرد في حمص، بجوار الساروت وأمام عشرات الآلاف، لا بد أن نمزج الصراخ مع البكاء، وأن يكون الفرح والحلم أقل في منطق وسلوك الطغيان والاستبداد، يرتفع الحزن الممزوج بطعم حرائقٍ غطت على صوت الحرية التي صدحت بها فدوى بعيدًا عن سيل الانفعالات المقموعة.

خلف الابتسامة التي كانت ترتسم على وجهها، اختزلت فدوى الحس المأسوي للسوريين برهافة بالغة الحساسية، لم توقف قدرتها على الإيمان بحرية بلدها وشعبها حتى كانت آخر الكلمات “يا محلاها الحرية”، لكنه الاستسلام الاستثنائي أمام أوجاع وآلام لا تحصى، ويبقى صوت فدوى في فرادته ونبرته الإنسانية تلخيصًا مكثفًا لمآسي سورية، ورمزًا ثابتًا للحرية والحق الصادح في ميادينها المختلفة، ولحظة استوعبت آلاف الأصداء الخارجة من أفواه الجموع التي احتشدت، في نهارات وأمسيات حمص، كانت بشارتها أصالة الانتماء للإنسان ورفضًا للظلم والظلام.

نودع فدوى، ونودع عقار الحقيقة بسلمية الثورة، بعد أن حقن واستبدل بكل عقاقير الخراب والدمار، نودع صورة من صور سورية المشردة العاشقة لذاتها في منافي الألم، ليبقى الإيمان بوطن سيُستعاد من الجلاد ومن السرّاق، من تحت قبعة الشرطي وقبضة رجل الأمن. سترتفع الهامات المحنية في أقبية التعذيب وبين الأزقة المُدمّرة، ستزول جبال الهموم يومًا، ويعبق الأفق بنسائم الحرية، هو إيمان فدوى ونموذجها الفنان الإنسان المنتمي لأول هتاف للحرية.

كان إخلاصها وحبها للثورة وللحرية عظيمًا، وإخلاصها للإنسان عميقًا لا يتزعزع، فدوى صورة من صور نساء سورية المشعة وزهرة من أزهار حريتها، وجبل من المعاناة والقهر، أرادت أن تكون في سبيل وطنها ومبادئها بمقدار ما استطاعت أن توهبها الحياة من نَفَس، سيبقى طعم الموت في حلوقنا جرحًا دائم التفتح، ينز علقمًا وحنظلًا إلى اللحظة التي يجف فيها جرح سورية.

وداعًا فدوى والسلام لروحك، ولكل الأحرار، سيكون لنا سكة أخرى غير تلك التي سكنكم فيها قلق على موت الأعزاء، مرارته في حلقنا باقية، حتى نغير سكة العبور ونبدل القطارات والحافلات من جديد، هناك حيث لا طاغية ولا لص.




المصدر