الوعي والثقوب السوداء


مهيب صالحة

في فضاء العالم الكوني، ثمة ثقوب سوداء لم يتمكن علماء الطبيعة بعدُ من معرفة كنهها، ولا تفسير طبيعتها أو كشف مضمونها، على الرغم من معرفتهم كيفية نشوئها. هذه الثقوب تبقى لغزًا تعجز أدوات العلم الحديث عن إدراكه.

تتشكل الثقوب السوداء من سلسلة التحولات في تركيبة النجوم الكيميائية، خلال دورة حياتها، حيث تغدو كتلتها كبيرة جدًا، مقارنة بحجمها القليل؛ فتزداد قوة جاذبيتها بشكل هائل إلى درجة تمنع حتى الضوء من الانفلات من قبضتها، لذلك تبدو الثقوب السوداء مثل بوابات تؤدي إلى المجهول، وربما العدم.

في المقابل، ثمة ثقوب سوداء في العالم الإنساني، ربما يكون العالم كلّه منزلقًا في مجاريها، دون معرفة كنهها، ولا تفسير طبيعتها أو مضامينها أو سياقاتها. ولكن كون هذا العالم لا يتماهى مع العالم الكوني؛ فإن مستويات انجراره في مجاري ثقوبه السوداء تختلف تقديراتها بين وحداته المجتمعية، من منظور زمكاني. لقد نشأت الثقوب السوداء في العالم الإنساني مع تشكل وعي البشر لنمط حياتهم ونمط تفكيرهم ونمط سلوكهم تجاهها، من خلال تضخم كتلة اللاوعي، مقارنة بانكماش حجمه وتفاقم جاذبيته إلى الحد الذي يمنع حتى بصيص الضوء “الوعي” من الانفلات منها، لمجرد اقترابه من هذه الكتلة. وعبر تاريخ انفعالي، صارت كتلة اللاوعي تشكل مناطق جذب إلى المجهول، وربما قوة جذب إلى العدم.

مع تشكل وعي الإنسان لذاته، تكونت (أناه) التي تضخمت كتلتها -انفعاليًا- على نطاق فردي ومجتمعي مقارنة بحجمها الصغير، وتغولت جاذبيتها لأي شيء سواها. هذه (الأنا) المتضخمة مثلت أول الثقوب السوداء، في وعي الإنسان والمجتمع على وجه العموم. إن المنظومة القيمية للاستغلال، سواء بين طبقات وصفائح المجتمع الواحد أو بين أفراده أو بين المجتمعات، القوي منها والضعيف، منبَتُها هذه (الأنا) الواعية، من حيث هي كتلة لها جاذبية هائلة، أي “ثقب أسود” لم يتمكن العلماء بعد من حلّ لغزه، رغم تعدد النظريات الاجتماعية والنفسية في هذا الخصوص. فالنظرية النفسية الفرويدية ترجعها إلى الطبيعة الإنسانية، كونها تفضل (أنا) على (نحن)، وفي السياق ذاته على مستوى المجتمعات (نحن) على (هم). ونظرية الطبقات الماركسية تحيلها إلى نشوء الملكية الخاصة والطبقات والصراع الطبقي، في إطار اللوحة الخماسية للتشكيلات الاجتماعية. والنظرية العرقية تفسرها بالنوع وترتيب الشعوب، عرقيًا، من الأنقى إلى الأقل نقاوة، وتضع (أنا) الشعب الأنقى فوق (هم) الجميع الأقل نقاوة، من منطلق الإرادة الإلهية المستمدة من مفهوم “شعب الله المختار” اليهودي، ومفهوم “الفرقة الناجية” الإسلامي. وتفسرها النظرية البراغماتية بتضارب المصالح. والنظرية الليبرالية تفسرها بمصلحة الفرد التي تنتهي بمصلحة الجماعة. والنظرية النفعية التي تنطلق من قانون نفسي وهو أن الإنسان، بطبيعته، يحب الحصول على أكبر لذة أو سعادة (مصلحة) بأقل عناء (جهد) على حساب مصلحة إنسان آخر. إن جميع هذه النظريات، وربما غيرها، يحيد عن فهم كنه الإشكالية الأساس في حياة البشرية (الاستغلال) الذي، على الرغم من تقدم الوعي وأدواته، ما تزال قوة جاذبيته تتفاقم، وتقذف بكل أشكال الصراع في جوفه نحو المجهول، وربما نحو العدم “بمعنى الموت”؛ إذا بلغ الصراع ذروته داخل الإنسان الفرد أو داخل مجتمع بعينه أو بين مجتمعين أو منظومتين اجتماعيتين-سياسيتين. ومن الصعب إيجاد تفسير لهذه الإشكالية غير الثقوب السوداء في بنية الوعي الناشئة عن التحولات الجيواجتماعية في البنيات العقدية والاجتماعية والسياسية والثقافية والسكانية والاقتصادية والحياتية؛ سواء على نطاق الفرد أو المجتمع أو العالم، وربما التحولات الكيميائية العضوية في بنية الإنسان ذاته، في دورة حياته مذ تأنسن وحتى الآن. ولعل هذا التفسير يصيب كبد الحقيقة؛ كونه يستند إلى حقائق الطبيعة التي لا يختلف الإنسان عن بقية أشيائها سوى بالعقل الذي ينتج الوعي. قد تبدو العلاقة بين الوعي والثقوب السوداء التي تشوهه علاقة ارتباط مثالية، كونها محصورة بالوعي، لكنها في الجوهر علاقة مادية جدلية، فالوعي ينتج بذاته لاوعيه “ثقوبه السوداء”، عبر تجلياته في الواقع الجيواجتماعي على مستوى البنيات والتراكيب الطبقية، وإلا فكيف نفسر كتلة الوعي الكبيرة التي بلغتها البشرية في مقابل تضاؤل حجمه وزيادة قوة جذب اللاوعي للأشياء الأخرى، بما فيها الوعي ذاته لو اقترب من منطقة اللاوعي؟؟ استغلال الدول القوية التي فيها أكبر كتلة وعي للدول الضعيفة التي فيها أصغر كتلة وعي. استحضار خلافات أو صراعات ماضوية، كمعركة الجمل ومقتل الحسين بن علي، من التاريخ البعيد “لاوعي”؛ إلى خلافات أو صراعات من الحاضر القريب لها صفة سياسية-اجتماعية “وعي”، واستحضار شرائع ماضوية “لاوعي”؛ لإلباسها على مشكلات الحاضر “وعي”، وأخذ ثورات الربيع العربي وثورة إيران الخضراء قبلها من منطق الوعي إلى منطق اللاوعي، ويموت من أجل هذا اللاوعي آلاف الشبان، وتهدم بيوت ويهجر ملايين البشر ينتمون، عقديًا، إلى دين واحد، واجتماعيًا إلى بنيات واحدة أو متشابهة على أقل تقدير، ومكانيًا إلى فالق جيواجتماعي واحد معاناته واحدة، ومشكلاته وحلولها واحدة. النزاعات الخليجية المتكررة في إطار مجلس للتعاون الخليجي تتشابه كل بنياته. وسابقًا النزاع السوري العراقي بين نظامين ينتميان إلى حزب واحد وعقيدة واحدة وتتشابه بنياتهما. والنزاع الهندي الباكستاني، وكانتا دولة واحدة وشعبًا واحدًا، وبنياتهما متشابهة إلى حد بعيد. والنزاع الإيراني الخليجي، وهم يتنمون إلى منطقة واحدة وما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم… لولا وجود الثقوب السوداء في الوعي الإنساني، بكل أشكاله وأنواعه ومضامينه، السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والقومية والعرقية والقبلية، وفي نطاق المجتمع الواحد، لما كان من الممكن انهيار منظومة القيم الأخلاقية والاستغلال البشع للضعفاء من قبل الأقوياء والخنوع للاستبداد والظلم والسكوت عن الفساد المستشري، وتبرير الفشل، وتسبيب الخلافات والنزاعات بالمؤامرة أو عوامل خارجية.. ما كان هذا ليكون؛ لولا وجود الثقوب السوداء التي تشوه بنية الوعي الفردي والمجتمعي. في مقلب آخر، تمكنت دول الاتحاد الأوروبي من ردم ثقوبها السوداء على مستوى كل مجتمع وعلى مستوى الاتحاد دونما ردم (أناها) بعلاقتها مع مجتمعات ضعيفة تجاورها من الشرق وعلى الضفة المقابلة للبحر الأبيض المتوسط أو مع مستعمراتها السابقة في أفريقيا. وبالمثل تمكنت أميركا واليابان والصين وغيرها من ردم ثقوبها السوداء، بنسب مختلفة، لكنها لم تردم (أناها) تجاه الغير، وبعضها كالولايات المتحدة الأميركية التي فيها أكبر كتلة وعي يتوج (أناها) أو لا وعيها في المرتبة الأولى على مستوى العالم الإنساني!

كما تجدر الإشارة إلى وجود “ثقوب سوداء” في الفكر، وفي النظر إلى الإشكالات تتجسد هذه الثقوب في نمطيات معينة لا تولد سوى اليباس في الوعي، والانحراف في تفسير المشكلات والظواهر الراهنة، باستخدامها نظريات وأدوات قديمة لم تعد صالحة أو تحتاج إلى تطوير، عدا عن القصور في التنظير لاحتياجات الواقع والتنبؤ للمستقبل والقطع مع الماضي البعيد وموروثاته. وكلما ازدادت تشوهات الفكر تفاقمت جاذبية الثقوب السوداء “اللاوعي”، وتتفاقم شراهتها لابتلاع ما يتبقى من وعي. ولن تتوقف هذه الجدلية التي تأخذ العالم الإنساني في مجاري المجهول، وربما العدم، عن الابتلاع والهدم، ما لم تعُد الفلسفة إلى المجتمعات التي غابت عنها ردحًا من الزمن، وما لم تُعِد مجتمعات الوعي (أناها) إلى حضن الوعي. عندئذٍ فقط يصح وجود الطبقات والصراع الطبقي، والأعراق والقوميات، والمصالح، والمنفعة؛ ولكن في أحضان الوعي الرحبة، وليس في بالوعات اللاوعي “الثقوب السوداء” التي ليس لها قرار.




المصدر