سيرة حالم بنُ ذِي حَلُّوم


نجم الدين سمان

كان يا مكان.. في سالف الأزمان وحتى الآن، حتى كان:

كان هناك مواطن في مملكة شرقستان؛ فقير الحال، يشتغل يومًا ويتعطّل أيامًا؛ حتى ليكاد يتحصَّل على قُوتِ أيامِه؛ وما يكاد ينام حتى يحلمَ في ليله.. بما ينقصه في نهاره.

وكان له صديقٌ يُدعَى: ناصح بنُ نصوح؛ يُرافقه في بؤسه، فيروي له أحلامه الصغيرة، ويرحل معه من مدينةٍ إلى سواها.. بحثًا عن الرزق في بلاد الله.

فلمّا دخلا مرّةً عاصمةَ السلطان.. أذهلهما الترفُ والبَذخُ فيها، وتلمّسا أن يجدا فيها رزقًا، فلم يسمح لهما أحدٌ.. حتى بتأجير أنفسهما كخدم؛ إلا إذا انتسبا إلى عصابةٍ.. تأخذ نصفَ راتبهما.

نام حالم وصاحبه نصوح ليلتَهما الأولى، في زاويةِ حارَةٍ مَنسيَّة؛ فلم يستغرق حالم في النوم ساعةً.. حتى رأى قصرًا ورجلًا يتسلّل ليلًا، ليقتل السلطان بخنجرٍ مسموم؛ ثمّ يجلس على العرش مكانه. فما كاد يطلع النهار.. حتى انتشر خبرُ انقلاب، فدُقّت الطبول، وصدحت المآذِنُ بالبَيعَة للسلطان الجديد. ثم نام حالم ليلته الثانية؛ فرأى فيما يرى النائمُ.. أسرابَ جرادٍ بأذرُعٍ وأقدامٍ بشرية؛ تُمطر المدينةَ بمساميرَ من الفولاذ.

فلمّا روى حُلمَه لصديقه، أيقن نصوح أنّ أحلام صاحِبِه قد تتحقق، فوقف بباب القصر حتى خرج كبيرُ وزراء السلطان الجدي؛ فتعلّق بردائه، يقصُّ لهُ أحلامَ صاحبه.

جمع الوزير الأكبر المُنجِّمِين وضَارِبِي الرمل وقارِئي الطالع.. يسألهم تفسيرَ المنام، فأفتوا بأنّ مملكة الأعداء تستعد لشنِّ حربٍ ضروسٍ.. لا تُبقِي ولا تذر.

فلما أفاق حالم وصاحبه نصوح.. سمعوا قرع طبولٍ وفرماناتٍ تُتلَى على الرعيّة بعقد معاهدة سلام وتسامح مع المملكة المجاورة، ثمّ أمر الوزير الأكبر بإحضار حالم بن حلوم وصاحبِهِ إلى قصره؛ وعُيّن.. مستشارًا للأحلام.

قال كبير الوزراء:

– احلم بما تشاء.. ولكن أخبرنا بها في التَوِّ وفي الحال.

ثمّ منحهما راتبًا وجناحًا في القصر وجاريتين، فلمّا نامَ حالم بن حلوم ليلته الأولى في القصر.. لم ير حُلمًا البتَة، ثمّ نام وصديقه ينصحه أن يبذلَ جُهدَه.. فاستفاق دونما حلمٍ على الإطلاق، وهكذا كان طوالَ شهرٍ كامل؛ كأنما كان في داخله بِئرٌ ثمّ غاض الماءُ عنه، حتى لم يعُد يستيقظ إلا مُرهَقًا والعَرَق ينِزُّ من خلاياه، ثم أخذت الكوابيسُ تُرهِقُهُ.. في ليله ونهاره.

تذكّر كبيرُ الوزراء أمرَ حالم فناداهما؛ سائلًا إيَّاه عن آخر أحلامه؛ فنهص نصوح بدلًا منه:

سأروي لكم ما رآه؛ لأنه إذا روى الحُلمَ بنفسه.. فَسُدَ المنام.

وأخذ يروي حُلمًا من تأليف هواجسه وتهويماته.. حتى خرجت عينا كبير الوزراء من مِحجريهما، وحالم ينظر إليه بغضب صامت، بينما يصدر كبير الوزراء أمرًا بالقبض على كلِّ من يتفوَّه بكلمة، أو نُكتة، أو.. بمُجرَّد رأي ضد السلطان أو ضد وزرائه وحاشيته؛ فبثّ العَسَس والبَصَّاصين في الأسواق والمدارس وفي التكايا والبيمارستانات، حتى امتلأت السجون عن آخرها بالمُعتقلين.

صرخ حالم في وجه نصوح:

كيف تروي عنّي.. ما لم أرَه في يقظةٍ أو منام؛ وتتسبَّب بهذا القمع الشنيع للرعية؟! ما ذنبي إذا توقفتَ عن الحلم؛ هل تريد عودتنا إلى حياة الفقر والتشرّد؟! لولا أحلامي.. لما كنتَ هنا يومًا. لكنها جَفَّت.. يا أبا الأحلام؛ فماذا لو أنّي استبدلتها بالأكاذيب والأوهام؟! ما ذنب الناس؛ ما ذنب الرعيّة؟! تقصد الرُعَاع.. هؤلاءِ وقودُ كلِّ سلطةٍ: مُصفِّقينَ لها.. لأجل عطاياها، أو.. مِن ضحاياها.

احتدّ النقاش بينهما واشتدَّ.. حتى أشهَرَ نصوح خنجرًا فقتل صاحبَهُ بطعنةٍ في القلب؛ ثمَّ حمله على ظهره صاعدًا الدرجات؛ فرماه من السطح إلى باحة الجناح؛ ليبدو الأمر في الصباح.. انتحارًا؛ حين استدعاه كبير الوزراء:

انتحر صاحبنا.. مَن سيُخبرنا بِمَآلِ حُكمِنا بَعدِه؟

فمسح نصوح بن ناصح دموع التماسيح؛ مُقتربًا من كبير الوزراء؛ هامسًا له:

رأيت ليلةَ البارحة حُلمًا جميلًا.. يا مولاي!


المصدر