جريمة الكيماوي… أوباما يحذر والأسد ينفذ وترامب يحصي


حافظ قرقوط

لم يستوعب السوريون حجم خبث القتلة ومكر اللصوص؛ إذ إنهم اعتادوا -في تاريخهم الطويل- أن يناموا آمنين في بيوتهم، بعد أن علمّوا أبناءهم الآداب والقيم، وورثوهم طبيعتهم السمحة الكريمة التي جعلتهم يلتحفون الأحلام البيضاء، وينامون ملء أعينهم على وسادة المحبة للوطن والحياة فيه.

في الواحد والعشرين من آب/ أغسطس 2013، كان وفد أممي يتنعم في أروقة فندق (الفورسيزن) وسط دمشق، وكان بشار الأسد في قصره المطل على العاصمة، وفي الغوطتين الشرقية والغربية، نامت الأسر بانتظار يوم جديد، مع احتمالية موت اعتادت عليه على مدار نحو سنتين ونصف من حرب النظام، بقذيفة ناقمة أو صاروخ حاقد، وإذا بفاجعة من نوع آخر تحمل بصمة ذلك العقل العاق الذي اغتصب البلاد في زمن معاق، منذ نحو 45 عامًا.

كانت جريمة مكتملة الأركان المحلية والدولية، بوجود لصوص المنظومة الدولية، حين أطلق الأسد السلاح الكيميائي على بيوت السوريين؛ فاغتال بدم بارد أكثر من 1400 سوري، جلهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى آلاف الإصابات من جراء استنشاق الغاز السام.

لم يكن ذلك التاريخ بداية استخدام نظام الأسد للسلاح الكيميائي، فقد قدّمت عدة جهات طبية وحقوقية سورية، إثباتات على استخدام النظام للغازات السامة للمرة الأولى في حي البياضة بحمص بتاريخ 23 كانون الأول/ ديسمبر 2012، وذلك عقب تحذير الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في آب/ أغسطس 2012، حين قال: “إذا بدأنا نرى نقلًا أو استخدامًا لكميات من المواد الكيمياوية؛ فذلك سيغير حساباتي ومعادلتي”، فاستخدمه الأسد في الليلة نفسها التي حذر فيها أوباما، لكن بعد مرور عام، وكأنه جواب “متفق عليه” على كتم أنفاس السوريين.

في آذار/ مارس 2013 تم توثيق هجومين، الأول على بلدة خان العسل في ريف حلب الغربي، والثاني في بلدة العتيبة في الغوطة الشرقية، وأدى إلى استشهاد العشرات، كما سُجلت بعدها هجمات على مدينة سراقب بريف إدلب الجنوبي الشرقي، وأماكن أخرى في محافظة حلب، منها حي الشيخ مقصود، وقد سجل تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان “33 هجمة كيميائية نفذها النظام السوري، قبل صدور القرار الدولي 2118 في أيلول 2013″، وهو القرار الذي صدر عقب جريمة الكيمياوي في الغوطة، ونص على اتخاذ تدابير خاصة لتسليم وتدمير الترسانة الكيميائية لنظام الأسد.

كانت منظمة (هيومن رايتس ووتش) قد أفادت، في تقرير لها في أيلول/ سبتمبر 2013، أن “الأدلة لديها تُشير إلى مسؤولية النظام السوري عن قصف بلدتين في الغوطة الشرقية بغاز الأعصاب”، أعقب ذلك بأيام تقرير عن (لجنة التفتيش الدولية) أوضح أن “صواريخ أرض – أرض قد حملت عبوات غاز السارين، في وقت تتلاءم فيه درجة الحرارة مع حركة الهواء، بحيث ينتشر على سطح الأرض، ليقتل أكبر عدد ممكن، بين الساعة الثانية والخامسة صباحًا”، ليطالب بعده أمين عام الأمم المتحدة السابق بان كيمون بمحاكمة المسؤولين عن الجريمة، وقال: “إن الأسد يجب أن يُحاسب على جرائمه”.

أشارت أوروبا من خلال دولها المؤثرة -ألمانيا وفرنسا وبريطانيا- بأصابع الاتهام إلى نظام الأسد استنادًا إلى تقاريرها الاستخباراتية -حينئذ- وبينت أن الغاز المستخدم في الجريمة هو غاز “السارين السام”. ونشر البيت الأبيض من جانبه تقريرًا للاستخبارات الأميركية يؤكد مسؤولية نظام الأسد عن الهجوم، وأشار إلى أن (مركز الأبحاث والدراسات العلمية السورية) كان يحضّر تلك الأسلحة “قبل ثلاثة أيام”، وأوضح أن المجموعة التي عملت على ذلك كانت “موجودة بضاحية عدرا، منذ 18 آب/ أغسطس”، حيث اعترضت الاستخبارات الأميركية “رسائل إلكترونية”، وأخذت صورًا من “أقمار صناعية”، تثبت عملية “التحضير للهجوم”.

يمكن القول -استنادًا إلى ذلك- إن العالم كان على علم مسبق بالتخطيط لهذه الجريمة، وإن اللجنة الدولية التي وصلت دمشق قبل ثلاثة أيام للتحقق من جرائم الحرب، كانت ضمن هذا السياق الدرامي -البائس أخلاقيًا- والمثير في تثبيت تاريخ انهيار القيم في العلاقات والقرارات والمواقف السياسية العالمية.

بحسب تقرير صادر عن (الشبكة السورية لحقوق الإنسان)، فقد بلغت حصيلة الهجمات الكيميائية منذ “آذار مارس 2011 حتى 31 تموز/ يوليو 2017، ما لا يقل عن 207 هجمات”، كما أكدت التقارير أن نظام الأسد، بعد مجزرة الكيميائي في خان شيخون في آذار/ مارس الماضي، التي قُتل فيها نحو 100 مدني وأصيب مئات آخرون، وعقب أن قصفت الولايات المتحدة بإدارة دونالد ترامب مطار (الشعيرات) العسكري كتحذير من استخدام الكيميائي؛ نفذ ما لا يقل عن 6 هجمات بالغازات السامة على حي جوبر بالعاصمة دمشق، وعلى بلدات الغوطة الشرقية لدمشق.

لا شك أن خطاب بشار الأسد، يوم أمس حين تزامن مع ذكرى مجزرة الكيميائي التي ارتكبتها يداه في الغوطة الشرقية، قبل أربع سنوات، هو رسالة جديدة ليس للمدنيين السوريين، فكل المجرمين يخرجون لاستعراض انتصارهم على جثث ضحاياهم الأبرياء عبر التاريخ، ولقد فعلها النازيون والفاشيون وكذلك ستالين روسيا وفرانكو إسبانيا والكثير من القتلة، ورسالة الأسد في خطابه من المرجح أنها لرعاته وشركائه في العالم، ليعبر لهم أنه ما زال يقوم بواجب الجريمة ويستطيع إهانة التاريخ الإنساني من جديد، بصفاقة تشبه اجتماعات مجلس الأمن الدولي وتقارير مبعوثيه حول تلك الجرائم بحق العزّل، وهي تماثل استخدام السلاح الكيميائي نفسه، إذ إن خروج القاتل أمام ذوي الضحايا مختالًا بما فعل، يشبه خروج أوباما وفلاديمير بوتين وغيرهما من القادة أمام شعوب العالم لإعطاء درس بالأخلاق، وإن اختلفت اللهجة من خطوط حمر سيئة الذكر تخفي في طياتها قرارات إعدام شامل لشعب هتف للحرية.




المصدر