on
الغارديان: التطرف آخذ في التصاعد. وللتغلب عليه، نحن بحاجة إلى قلوب وعقول الشباب
أحمد عيشة
لا يوجد صدام بين الحضارات. إنها أزمة ثقافات، والمفتاح لمعالجتها أو للتعامل معها هم الشباب.
انتهى إجلاء آخر المصابين، بعدها توجهتُ إلى لاس رامبلاس، وهو ممشى سياحيٌّ شهير في برشلونة، حيث قام “جندي آخر من (داعش)” بإقحام الشاحنة نحو الجمهور؛ ما أدى إلى مصرع 13 شخصًا، وإصابة أكثر من 120 آخرين من 34 بلدًا. قبل دقائق من الهجوم، كنتُ قد أنزلت قريبة زوجتي بالقرب من مكان وقوع الهياج المدمر. كان شيئًا مرعبًا كنت قد رأيته من قبل، كما هو الحال مع مذبحة باريس في مسرح باتاكلان عام 2015، بالجوار من مسكن ابنتي.
في منتزهٍ على شاطئ البحر جنوب برشلونة، قامت سيارة فيها خمسة انتحاريين بقتل امرأةٍ، قبل أنْ تقتلهم الشرطة كلهم. كان أحد المهاجمين المراهقين قد نشر على شبكة الإنترنت، قبل عامين، قوله: “في يومي الأول كملكٍ للعالم، سأقتل الكفار كلهم، وسأبقي فقط المسلمين الذين يتبعون دينهم”.
أعلن ماريانو راجوي، رئيس إسبانيا، أنّ “قيمنا وطريقة حياتنا ستنتصر”، تمامًا مثلما أعلنت تيريزا ماي في آذار/ مارس: “قيمنا سوف تسود”، عندما قاد مجرمٌ صغير آخر، “تحوّل” إلى الإسلام المتطرف، سيارته عبر جسر وستمنستر، ليقتل أيضًا ويجرح المارة.
في شارلوتسفيل، الأسبوع الماضي، المهاجم والمؤمن بتفوق البيض الذي قتل ناشطًا في الحقوق المدنية، هيثر هيير، قلّدَ طريقة (داعش) في القتل باستخدام العربات. معلّم التاريخ السابق للمهاجم المتهم، قال للصحيفة: “كان هذا شيئًا ينمو في داخله، كان لديه هذا الولع بالنازية وبوجهات النظر التي تدعي بتفوق البيض.. أعترف أنني فشلت. لكن هذه هي بالتأكيد لحظةٌ لنتعلم منها، وأمرٌ يجب أنْ نكون يقظين تجاهه، لأن هذه الأشياء تمزق بلادنا”.
يبدو أنَّ قيم الليبرالية والديمقراطية الحرَّة تفقد الأرضية على نحوٍ متزايد في جميع أنحاء العالم، لصالح هؤلاء أصحاب المواقف القومية العرقية الضيقة القائمة على كراهية الأجانب، والإسلام المتطرف. هذا ليس “صراع الحضارات”، ولكنه انهيار المجتمعات، لأنَّ التطرف العنيف القومي، والإرهاب الجهادي العابر للحدود لا يمثل عودة الثقافات التقليدية، وإنما تفككها.
هذا هو الجانب المظلم للعولمة. لقد حلّت الدولة القومية الغربية، والأسواق المفتوحة نسبيًا التي تهيمن على النظام السياسي والاقتصادي العالمي، إلى حدٍ بعيد، محل الأشكال القديمة من الحكم، والحياة الاجتماعية. وقد تحوّل الناس في جميع أنحاء الكوكب إلى لاعبين متنافسين يسعون لتحقيقها من خلال التراكم المادي، ورموزه. ولكن المشاركة القسرية، والمقامرة في فورة التغيير الذي يحركه السوق، غالبًا ما تفشل، وخاصة بين المجتمعات التي لم يكن لديها الوقت الكافي للتكيّف. وعندما يحدث ذلك، فإنَّ العنف الاستباقي والإنقاذي ميالٌ للانفجار.
إنَّ السعي إلى القضاء على عدم اليقين، إلى جانب ما يعتبره عالم النفس الاجتماعي، آري كروغلانسكي “البحث عن معنى“، هي المشاعر الشخصية الأكثر سهولةً التي استخلصها فريق البحث من المقابلات التي أُجريت مع الجهاديين العنيفين، والمؤيدين المتشددين للحركات القومية العرقية الشعبوية. في هنغاريا، نجد دعمًا قويًا لدعوة الحكومة لاستعادة “التماسك الوطني” المفقود مع سقوط نظام ميكلوس هوثي الفاشي في الحرب العالمية الثانية. في العراق، نجد أنَّ جميع الشباب تقريبًا الذين يخرجون من تحت حكم (داعش) في الموصل، رحبوا في البداية بالاستقرار والأمن الذي قدمته لهم، على الرغم من وحشيتها، وسط الفوضى التي أعقبت الغزو الأميركي.
في عالم الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان، يُعتبر العنف -وخاصةً الأشكال المتطرفة من سفك الدماء- مَرضيًّا، أو تعبيرًا شريرًا عن الطبيعة البشرية. ولكن عبر معظم التاريخ، والثقافات، يدّعي مرتكبو العنف ضد الجماعات الأخرى بأنه مسألة سامية لفضيلةٍ أخلاقية. ومن الصعب، إنْ لم يكن من غير المتصوَّر، أنْ تقتل أعدادًا كبيرة من الناس الأبرياء لم يؤذوا الآخرين، من دون دعوةٍ إلى الفضيلة.
منذ الحرب العالمية الثانية، فاز الثوار، والمتمردون المستعدون للتضحية بأنفسهم من أجل قضايا، وجماعات، بقوة نيران، وقوة بشرية أقلّ بكثيرٍ من جيوش الدولة، وقوات الشرطة التي يعارضونها. وفي الوقت نفسه، وفقًا لاستطلاع القيم العالمية، فإنَّ غالبية الأوروبيين لا يعتقدون أنَّ الديمقراطية “ذات أهميةٍ مطلقة” بالنسبة لهم؛ وفي فرنسا، وإسبانيا نجد أدلةً قليلة على الاستعداد للتضحية بالكثير من أي شيء، من أجل الديمقراطية، على النقيض من ذلك، نجد الرغبة في القتال، والموت بين أنصار الجهاد المسلح.
كيف يمكننا أن نقاوم، ونتغلب على هذه الضغوط المعادية للثقافات في هذا العصر، وأن نتنافس معها، وأن نتغلب عليها؟ ربما، بالنسبة إلى البعض، فإنَّ إعادة السحر، والتجديد المجتمعي لقيمنا الخاصة، بالحكومة التمثيلية، والتسامح الثقافي، يوفر جوابًا. إنَّ الحفاظ على ما تبقى من حيوانات ونباتات الكوكب، وتجنب الكوارث البيئية قد يوفر مسارًا جديدًا للآخرين، أو لربما یقدَّم الجیل القادم، إذا سُمح له، طرقًا جدیدة للفھم.
ومع ذلك، لن تنتشر رسالة مضادة في فراغ اجتماعي، في الفضاء المجرد للأيديولوجية، أو السردية المضادة وحدها. وتُعدُّ وسائل المشاركة حاسمة، وتتطلب معرفةً وثيقة بالمجتمعات المعرضة للخطر. في معظم الأحيان، ينضم الناس إلى الجماعات المتطرفة من خلال الشبكات الاجتماعية الموجودة من قبل. ويشير هذا التكتل إلى أنّ الكثير من التجنيد لا يحدث أساسًا عن طريق الدعوات المباشرة، أو بعد التعرف الفردي في وسائل التواصل الاجتماعي (مما يستتبع نمط تجنيد أكثر تشتتًا). بدلًا من ذلك، غالبًا ما ينطوي التجنيد على تجنيد مجموعاتٍ من العائلة، والأصدقاء، وزملاء السفر الآخرين من مناطق محددة (الأحياء، والجامعات، والسجون).
إنَّ بحثنا في تاريخ الهجمات المستوحاة من (داعش)، في أوروبا الغربية، يشير بوضوحٍ إلى أنَّ المحاولات الأولية -التي قام بها أولئك الذين كلَّفهم “تنظيم الدولة الإسلامية” مباشرةً، ومن دون مشاركةٍ من الشبكات الاجتماعية المحلية الموجودة مسبقًا- فشلت في الغالب؛ ومع ذلك، ومع توسع هذه المشاركة وتعميقها، أصبحت الهجمات أكثر فتكًا مع الزمن. في بحثنا، نجد اتصالاتٍ فضفاضة، ولكنها واسعة النطاق بين الدوائر الجهادية في برشلونة، وكثير من أوروبا الغربية، والمغرب، وبلاد الشام وما وراءها تمتد حتى إلى قبل هجمات 11 أيلول/ سبتمبر.
يجب أنْ يكون التركيز الضروري على مشاركة الشباب الذين يشكلّون الجزء الأكبر من المجندين المتطرفين اليوم، والسكان الأكثر عرضةً للخطر في الغد. وغالبًا ما يكون المتطوعون في تنظيم القاعدة أو (داعش) والعديد من الجماعات القومية المتطرفة، من الشباب الذين تعرفوا إلى بعضهم خلال مراحل انتقالية في حياتهم، من المهاجرين، والطلاب، والأشخاص بين تركهم العمل وإيجاد وظيفة من جديد، وقبل أنْ يجدوا شركاء حياتهم، بعد أنْ تركوا منازلهم وأولياء أمورهم، فهم يسعون لأُسرٍ جديدة من الأصدقاء، وزملاء السفر، للعثور على الهدف والمعنى.
نحن بحاجةٍ إلى استراتيجيةٍ تعيد توجيه الشباب المتطرف من خلال المشاركة مع عواطفهم، بدلًا من تجاهلها، أو تخويفهم، أو إرضاء أنفسنا من خلال دعوة الآخرين إلى الاعتدال، أو ببساطةٍ التنديد بهم. وبطبيعة الحال، هناك حدودٌ للتسامح، ومخاطر العنف الأسوأ في استرضاء ما لا يطاق. تنطوي انقساماتنا الحزبية على اختلافاتٍ حقيقية في القيّم التي يروّجُ لها السياسيون والنقاد، ويحولونها إلى تهديداتٍ وجودية. ولكن ما تزال هناك أسبابٌ شائعة واسعة في عالمٍ يمكن فيه للجميع، بل للبعيدين جدًا، أن يعيشوا الحياة بأكثر من الحد الأدنى من الحرية والسعادة، إذا أُعطوا نصف فرصة. ومن أجل هذه الفرصة، خاض بعض أسلافنا ثوراتٍ، وحروبًا أهلية، وحروبًا عالمية.
اسم المقال الأصلي Extremism is surging. To beat it, we need young hearts and minds الكاتب سكوت أتران، Scott Atran مكان النشر وتاريخه الغارديان، The guardian، 20/8 رابط المقال https://www.theguardian.com/commentisfree/2017/aug/20/extremism-is-surging-to-beat-it-we-need-young-hearts-and-minds?utm_source=esp&utm_medium=Email&utm_campaign=GU+Today+main+NEW+H+categories&utm_term=240257&subid=21764362&CMP=EMCNEWEML6619I2 ترجمة أحمد عيشة*- عالم أنثروبولوجيا، ومؤلف كتاب الحديث مع العدو (2010)
المصدر