مسرح النوائر: مفارقات إسرائيلية وأوصال قبيلة بائدة


حاتم محمودي

ثمة سرديات إسرائيلية قامت على مغالطات فكرية سياسية عديدة، هي الآن تنعكس على راهن الفن الإسرائيلي واشتغاله، لا سيّما من حيث موضوعاته وخلفياته وخرائط هويته؛ فإذا به يتحول إلى سلاح محض، كما نشاهد ذلك، ونتأكد منه من خلال الفن المسرحي نموذجًا، بصفته يتحرك ضمن دائرة مرسومة له سلفًا، وقائمة على توجه كولونيالي وفاشي صرف، وكأن لا مهمة له غير الإقامة ضمن نزعة النوائر “العداوات” التي تحرك بطشها الدولة الإسرائيلية.

إن النظر إلى المسرح الإسرائيلي، بغاية التمحيص والنقد والتفكيك دون عودة فكرية وتاريخية وأنثروبولوجية، تفكك تلك السرديات القديمة، بغاية تقويض جل المغالطات “الهووية”، لهو أمر قد يوقعنا في قراءة ساذجة، لن تغذي إلا السائد السياسي القائم على مشروعية الدولة الإسرائيلية، كما يجرد الفعل المسرحي من كل خاصية فلسفية ومراجع فكرية وحضارية.

لقد ذهب كل من “أنطوان شلحت” في كتابه (خداع الذات: المسرح الإسرائيلي وحرب 1967) و”شمعون ليفي” في كتابه (المسرح الإسرائيلي: الأنا والآخر ومتاهة الواقع)، إلى عقد محاورة تهدف إلى استنطاق هذا المسرح، ورغم كونها محاورة أدلت بالعديد من المعلومات التي نجهلها، إلا أنها لم تتجاوز المنحى التأريخي والوصفي، من حيث تسليط الضوء على ظروف تأسيسه ورصد موضوعاته ومتونه وخلفياته الجمالية المُرفدَةِ من الغرب، كما لم تتجاوز الإشارة إلى بعض إشكالاته، سواء المتعلقة بعلاقته مع السلطة الإسرائيلية وهامش الحريات المتاحة له، أو تلك المعنية بالكشف عن مكانة الشخصية العربية في منظوراته.

ذهب الأول إلى عقد مساءلة للداخل الإسرائيلي، من حيث سعي السلطات السياسية إلى تضييق الخناق على المسرحيين، والزج بهم ضمن توجهاتها الاستعمارية والاستيطانية، سواء كان ذلك عبر منع عروضهم أو معاقبتهم، كما حصل مع المسرحي “حانوخ ليفين” ومسرحيته (ملكة الحمام) التي تعرضت للمنع والتهديد من قبل “رئيس بلدية تل أبيب”، وطيف شاسع من الإعلاميين والمسؤولين هناك، ما دفع بالمخرج -فيما بعد- إلى تقديم رسالة اعتذار ساخرة وبالغة التهكم. وإضافة إلى ذلك قدّم لنا الكتاب صورة واضحة عن مكانة الشخصية العربية في المسرح الإسرائيلي، حتى إنها بدت في غاية الاستهجان، كما لو أنها مسخ محض.

أما الكتاب الثاني فقد أفصح صاحبه عن اعتراف يدين السياسات الإسرائيلية ذاتها، وذلك من خلال قوله “إن للمسرح الإسرائيلي الحقيقي، الوطني -بالمعنى الواسع للكلمة- مهمّات جديدة: أن يكافح وباء الفاشية المتفشي في صفوفنا. إن مهمة المسرح اليوم تتمثل -أيضًا- في منع عملية التمويه والتجميل التلفزيونية للمأساة الفظيعة”.

ما من شك الآن في أن “أنطوان شلحت” و”شمعون ليفي” -بالرغم من تقديمهما جل تلك الإشكالات- لم يتجاوزا حدود المعادلة الموضوعة للمسرح الإسرائيلي سلفًا، إذ تكشف قراءة الأول عن معالجة وصفية لا غير، وتُغَيب الجانب الفكري والأنثروبولوجي، بينما تكشف قراءة الثاني عن اعتراف بالدولة الصهيونية، ولا تتعدى المنظور القائل بضرورة تكريس الديمقراطية في الداخل الإسرائيلي، من حيث العلاقة مع الفلسطيني. ولكن يا لفداحة السخرية: كيف يمكن لهذا المسرح النجاح في ذلك، وهو الذي نشأ خارج “أرض إسرائيل” –بعبارة الكاتب نفسه- لينتقل إليها فيما بعد ويتطور بتطور الصهيونية؟

أن نسعى الآن إلى تقويض كل من القراءتين لهو أمر عبثي في نظرنا، ورُب فخاخ -نحن الآن نقع في شراكها- وعلينا أن نسأل كيف نتجاوزها. تقودنا الكيفية هنا إلى السؤال عن المنهج، حتى يتسنى الكشف عن ثغرة ما، نعبر من خلالها إلى أغوار سحيقة، قد تمكننا من نسف تلك المعادلة التي حققت كينونة المسرح الإسرائيلي ذاته: علينا أولًا إسقاط الاحترام عن الدولة الصهيونية ومراياها المشروخة، إذ إن كيانها الثقافي من كيانها الكولونيالي المحض، وأن نكنس مسرحها، فذلك شريطة كنسها أولًا، وبما أنه مدخلنا إلى نوائرها فلن تكون مفارقاته إلا من مفارقاتها.

يكشف المسرح الإسرائيلي إذن، في ضوء استنطاقه العمق التاريخي للمنطقة (فلسطين المحتلة/ الدولة الصهيونية) عن مفارقات أنثروبولوجية وأركيولوجية كبرى، وهي مفارقات كرست الدولة الإسرائيلية جهودَها كي تطمس حقائقها، منذ أمد بعيد، يمكننا تفنيدها جملة ورمة وتفصيلًا، بالعودة إلى بحوث العراقي “فاضل الربيعي” وكتبه: (القدس ليست أورشليم) و(فلسطين المتخيلة) و(حقيقة السبي البابلي) وغيرها من المقالات التي استندت إليها مؤخرًا منظمة (يونسكو) كقرائن تنسف نهائيًا مقولة العلاقة التاريخية لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق. لقد ذهبت “إسرائيل” إلى تشغيل “المظلومية”، لا “مظلومية” محرقة الهولوكست فحسب، وإنما سردية السبي البابلي أيضًا، فادّعت أنها ضحية النوائر، ومن ثمة تجاهلت كونها قبيلة عربية بائدة من أصول يمنية مثلها مثل عديد القبائل الأخرى، وهذا ينم عن حقيقة تقول إنه ليس ثمة “إسرائيل واحدة” بل ثمة “إسرائيل أخرى” أيضًا، الأولى بائدة مثلها مثل القبائل اليمنية القديمة، أما الثانية فكيان كولونيالي واستعماري، التجأ إلى تشغيل الأولى واستثمارها تاريخيًا؛ كي يجد مشروعية التواجد.

سيحق لنا الآن، في ضوء ما سبق، طرح جملة من الأسئلة المتهكمة والساخرة والإنكارية: أي مفارقة مضحكة، حين نسمع عن عروض مسرحية صهيونية تهجو الشخصية العربية؟ وإذا كان على الإسرائيلي هجاء العربي، من باب الصراع ضده، أفليس عليه أن يكف أولًا عن الادعاء القائل بانتمائه إلى “إسرائيل” القديمة وهي العربية، أم أنه هنا يهجو ذاته كمثل من ينظر في المرآة ليبصق على وجهه؟ ألا يؤكد ذلك هشاشة سردياته برمتها؟ وألا يفصح ذلك عن كون “إسرائيل” الحالية هي مجرد كيان كولونيالي غاصب ودموي وممزق الأوصال والهوية، يبحث له، بأي شكل من الأشكال، عن وطن يرمم مآسيه الخاصة بإيعاز غربي -نحن نعرف تاريخيته، منذ محرقة “الهولوكست” إلى خياناتنا القومية التي انتقلت من معاداة التتريك (تركيا) إلى العمالة لبريطانيا- فإذا به في فلسطين المحتلة؟ وماذا عن تلك المحاولات المسرحية التي تنظر وتشرع للسلام مع الفلسطينيين؟ ألا تعد هي الأخرى –في مرماها- مسكنات محض، تجد في “التطهير الأرسطي” اشتغالها بتعلة تجميل الوحش الصهيوني، أمام العالم أو التعاطف مع سياساته الإجرامية من باب القول بديمقراطيته، فيما بعد؟

يا لوطأة هذه الأسئلة ومرارتها: نحن نعتقد الآن -بشكل أو بآخر- أننا بهذا الشكل قوضنا المسرح الإسرائيلي برمته، ولكن ماذا لو أننا فكرنا قليلًا في طرقٍ تمكننا من الخروج بنصوصنا الغضبية هذه إلى غضبٍ، نترجمه إلى فعل حقيقي؟

أواه، يا طرفة بن العبد: إن سؤالنا هذا أشد “مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند”!




المصدر