جرود الحدود اللبنانية السورية: “داعش” من التسلم إلى التسليم




انضمت منطقة القلمون السورية المحاذية لحدود لبنان الشرقية إلى الثورة السورية منذ أيامها الأولى، وشكّلت بحدودها المفتوحة مع لبنان معبراً لنقل الجرحى واستقدام المواد الطبية والغذائية إلى الداخل السوري. تنقّل أبناء المنطقة بين الفصائل المعارضة السورية، وقاد الطموح الشخصي بعضهم للالتحاق بالتنظيمات المتطرفة كـ”جبهة النصرة” (جبهة فتح الشام حالياً) و”داعش” بحثاً عن مكانة وسطوة. جمعت الأعراس والمصاهرات والمصالح المالية الناتجة عن التهريب غير الشرعي سكان بلدات منطقة القلمون السورية بسكان محافظة بعلبك – الهرمل اللبنانية منذ عقود. ولم تحُل الانتماءات الطائفية المُتعددة لأهالي المنطقة دون صياغة شبكة علاقات اجتماعية واسعة، لكن هذه العلاقات تضررت سريعاً نتيجة الأحداث السورية، خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة، وانخراط “حزب الله” بمقاتلين من البلدات القريبة من الحدود في حرب النظام السوري ضد الشعب، ثم استهداف التنظيمات المتطرفة للمدنيين اللبنانيين.

انطلقت التظاهرات الحاشدة في مُختلف بلدات ومدن القلمون مع انطلاق الثورة السورية، وتميزت التظاهرات فيها بزخم كبير نظراً لموقع المنطقة الحدودي مع لبنان ولربطها بين ريفي حمص ودمشق.

نجحت الثورة في طرد قوات النظام السوري من مُعظم المنطقة، وصاغ أهالي البلدات نماذج مبكرة من التفاهمات الميدانية مع ما بقي من مراكز عسكرية للنظام في المنطقة. قدّم أهالي القلمون نماذج مُتعددة في الإدارة المدنية للمناطق المُحررة في أوائل أيام الثورة، وأشرف مُختصون على المستشفيات والمدارس والمخابز التي استمرت بوتيرة عملها نفسها قبل الثورة. كما استضاف الأهالي اللاجئين من ريفي حمص ودمشق. ونجح رجال الأعمال في مدينة يبرود (ثاني أكبر منطقة صناعية في سورية بعد حلب) في تحييد المدينة ومنع استهداف القوات السورية لها بحكم المصالح الاقتصادية المشتركة مع شخصيات في النظام. حدث ذلك قبل أن تخضع المنطقة للسيطرة الأمنية والعسكرية لتنظيمي “داعش” و”النصرة”.

موصل مصغرة” في القلمون
احتضنت منطقة القلمون الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية (أبرزها فصائل الفاروق وجبهة سورية الإسلامية وجبهة تحرير القلمون). وانضمّ إلى الفصائل من الصنفين مقاتلون من “المُهربين والزعران”، كما وصفهم العقيد المُنشق عبد الجبار العكيدي، بعد معركة القصير، ليصبح هؤلاء النواة الصلبة لتنظيمي “داعش” و”النصرة” في المنطقة، ممن حرفوا الثورة السورية عن أهدافها وورطوا منطقة القلمون في العديد من المعارك الجانبية التي سهّلت لـ”حزب الله” ولقوات النظام السوري استعادة السيطرة عليها.

حملت هزيمة مدينة القصير (في ريف حمص) على يد حزب الله (2013)، عناصر “النصرة” إلى القلمون. وكشف إفشال حملة الإمداد التي قادها قائد “لواء التوحيد” الراحل عبد القادر صالح وعبد الجبار العكيدي، من حلب إلى القصير عدم جدية معظم الفصائل التي كانت تنتشر في المدينة في قتال قوات النظام السوري و”حزب الله”. وواصلت عدوى مبايعة “النصرة” بالانتشار في القلمون، وتحول الكثير من “المهربين والزعران”، بمصطلحات العكيدي، إلى مُلتزمين دينياً فجأة وتسلموا مراكز قيادية في “النصرة” حتى أن بعضهم أصبح “أميراً” فيها. أسست الجبهة فور استقرار عناصرها في القلمون موقعاً كبيراً للتدريب قرب مدينة يبرود. وواصل المهربون والمُغرر بهم مبايعة الجبهة، على وقع التفجيرات الانتحارية التي نفذها مقاتلوها ضد مواقع وحواجز النظام في القلمون. لم يطل الوقت حتى وقع الخلاف الأول بين أهالي القلمون ومقاتلي “النصرة” الذين احتلوا بلدة معلولا المسيحية، التي لا تحمل أي قيمة عسكرية، عام 2013، وكسروا الصليب المرفوع في ساحتها. مشهد دفع بمسيحيي القلمون إلى التحفظ عن دعم الثورة بعد أن كانوا من أوائل المشاركين فيها. تمددت “النصرة” بعدها إلى مُختلف مناطق القلمون، بالتزامن مع إخلاء فجائي لقوات النظام السوري لـ18 موقعاً حدودياً مع لبنان، وذلك في حركة مفاجئة مشابهة لانسحاب الجيش العراقي من الموصل وتسليمها لعناصر “داعش” في يونيو/ حزيران 2014 زمن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، لتُصبح الحدود اللبنانية – السورية شرقاً مفتوحة من جهتين بعدما التزم الجيش اللبناني ثكناته الحدودية وترك المعابر مفتوحة من دون أي إشراف منذ 2011. في هذه الأثناء، كان تنظيم “داعش” يسيطر على مدينة الموصل، قبل أن تصل أوائل قواته إلى منطقة القلمون عبر البادية السورية وعبر ريف دمشق مدعومة بالبروباغندا الضخمة التي واكبت إعلان أبو بكر البغدادي لـ”الخلافة”.

استقر مقاتلو التنظيم في القلمون أيضاً، وصاغ أمراء “النصرة” و”داعش” تفاهمات قصيرة الأمد لتجنيب التنظيمين في القلمون آثار المعارك الطاحنة بينهما في مُختلف المناطق السورية. لكن التفاهم لم يدم سريعاً واندلعت حرب مبايعات وتكفير بين التنظيمين، وسط تراجع الحالة الثورية والمدنية في القلمون لصالحهما. وشكلت الأراضي اللبنانية هدفاً طائفياً لـ”النصرة” و”داعش” اللذين حولا منطقة القلمون إلى قاعدة عمل خلفية لإعداد السيارات المُفخخة وإرسال الانتحاريين لقتل المدنيين اللبنانيين.
وتختصر قصة زعيم “داعش” في الجرود الحدودية اللبنانية ــ السورية، المعروف بـ”أبو السوس”، هوية النواة الصلبة لهذا التنظيم في تلك المنطقة. فقد تحوّل موفق الجربان (المعروف باسم أبو السوس)، من مُهرّب سيئ السمعة حتى بين زملائه المُهربين إلى قيادي في “النصرة” أثناء فترتها الذهبية التي عاشتها في القلمون، قبل أن يُبايع “داعش” ويلعب على تناقضات قادتها ليُصبح الأمير الأوحد على رأس التنظيم وذلك خلال سنوات قليلة فقط. كما نبذ القيادي الآخر، المعروف بـ”دولي قارة”، الغناء في الأعراس الشعبية وفي تظاهرات الثورة السورية في بلداته، وانضم إلى مقاتلي “داعش” في الجرود. أما زعيم النصرة في تلك المنطقة، أبو مالك التلي، ابن مدينة التل، في ريف دمشق، فكان ولا يزال يتردد بين أوساط مناصريه حتى، أنه أمير حرب حصّل عشرات ملايين الدولارات من أعمال الخطف ومن الفديات (خصوصاً بعد خطف راهبات معلولا)، وحملها معه إلى مدينة إدلب عند إنجاز اتفاق الترحيل مع حزب الله قبل أسبوعين.

وضاعف من حجم الفتنة الطائفية التي شكلت “النصرة” و”داعش” و”حزب الله” طرفي نقيضها، موقع بلدة عرسال على حدود لبنان الشرقية مع سورية واستقبال أهلها لعشرات آلاف اللاجئين منذ اليوم الأول للثورة، وذلك بعد أن حوّل التنظيمان البلدة إلى خط مُتقدم لاستهداف المدنيين في لبنان، وسط تجاهل كامل لمصالح اللاجئين ولسيادة لبنان. وسرعان مع اشتعلت مخيمات اللاجئين في البلدة بعد أن اجتاحها مقاتلو “داعش” و”النصرة” إثر توقيف الجيش اللبناني لقادة أحد الفصائل السورية بعد أيام من مبايعته للبغدادي أثناء محاولته دخول عرسال لزيارة أهله عام 2014. وتؤكد مصادر محلية في البلدة أن الكثير من مقاتلي التنظيمين زاروا عرسال سابقاً ولكن بهدف التهريب وليس القتال.​
4 سنوات فقط كانت كافية لتحويل “النصرة” و”داعش” لمنطقة القلمون من منقطة إدارة مدنية يُدافع الجيش السوري الحر عنها إلى بيئة حبلى بالتناقضات القاتلة ومصدراً للقلق العابر للحدود. وبعد أن كانت المعابر غير الشرعية سبيلاً لإغاثة الجرحى باتجاه المستشفيات اللبنانية ونقل المستلزمات الطبية إلى الداخل السوري، أصبحت طريقاً لعبور السيارات المُفخخة والانتحاريين. وكانت مكافأة التنظيمين مُجزية بعد منحهما ممراً آمناً للعبور إلى مناطق سيطرتهما في الداخل السوري بعد إنجاز مهمة قتل الثورة على حدود لبنان الشرقية.

بروباغندا لزيادة المكاسب السياسية
واجه “حزب الله” عناصر التنظيمين في أكثر من منطقة سورية على امتداد الخارطة، وشكلّت معاركه هناك محط خلاف داخلي في لبنان بعد أعوام على اتهام أفرقاء لبنانيين للحزب بتسخير سلاحه لتحقيق أهداف سياسية محلية وإقليمية بعيداً عن مقاومة إسرائيل. وقد برر الحزب مشاركته في الحرب السورية تحت مجموعة عناوين تدرّج في طرحها للرأي العام اللبناني، وكان أولها “حماية المقامات الدينية” في سورية، ثم “مكافحة الإرهاب ومنع تمدد التكفيريين إلى لبنان”. لكن خطابات الأمين العام للحزب حسن نصر الله، التي ألقاها أخيراً أكدت أن هدف الحزب الوحيد هو تعويم النظام السوري وإرغام الحكومة اللبنانية على التطبيع معه وإعادة الشرعية له. وبعد أن أوقف الحزب عام 2015 تقدمه في المنطقة الحدودية بين لبنان وسورية تحت عنوان “تجنب الحساسيات المذهبية التي قد تنتج عن السيطرة على جرد بلدة عرسال ذات الأغلبية السنية”، تزامن إسقاط هذا الاعتبار عام 2017 والتقدم باتجاه مواقع سيطرة “جبهة النصرة” في المنطقة مع تحول الحديث السياسي الدولي حول سورية باتجاه الإبقاء على رأس النظام بشار الأسد في موقعه وعدم إسقاطه. كما كشفت تسجيلات مصورة، تحريضاً طائفياً من عناصر الحزب المنتشرين في جرد عرسال ضد أبناء البلدة. وقد نشر أهالي عرسال صوراً لآليات زراعية وأخرى تستخدم في استخراج الحجر العرسالي محروقة في جرد البلدة بعد انتهاء عملية انسحاب عناصر “النصرة”. ويقول الأهالي إن الآليات “أُحرقت عمداً ولأهداف انتقامية منا”.

كما شارك “حزب الله” في البروباغندا العالمية التي روجّت لتنظيم “داعش” وحذّرت من ضخامة بنيته العسكرية، وهو ما نفته وقائع المعارك التي خيضت ضده في أكثر من جبهة. وشكّل جهاز “الإعلام الحربي” المصدر الوحيد لمعلومات وسائل الإعلام منذ عام 2013 وحتى العام الحالي. سمحت هذه الأحادية الإعلامية للحزب بتضخيم أعداد مقاتلي التنظيمين وتصويرهم بطريقة أسطورية، قبل أن تكشف التناقضات بين تصريح المدير العام لجهاز الأمن العام عباس إبراهيم وتصريح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، أن هناك مبالغة وتضخيماً هائلين لأعداد المقاتلين. ففي حين ظلّ الإعلام الذي يدور في فلك حزب الله يقول إن عدد عناصر داعش وحده يبلغ نحو 600 مقاتل فضلاً عن مئات المقاتلين من النصرة، تبيّن لاحقاً، من رصد أعداد من قتل ومن استسلم ومن غادر من المسلحين في الباصات نحو إدلب ودير الزور، أن العدد الكلي للمقاتلين في تلك المنطقة لم يزد عن الـ600 في أقصى حدّ.
كما كشف التقدم السريع للجيش اللبناني في جرود بلدات الفاكهة ورأس بعلبك والقاع أن عناصر “داعش” ليسوا بالقوة التي حاول حزب الله تصويرهم بها لكسب شرعية وطنية لبنانية لمشاركته في الحرب السورية، سواء على الحدود، أو في عمق الأراضي السورية.




المصدر