عالَم السينما ليس حياديًا


رغدة حسن

في عالم السينما المزدحم بالسحر والأحجيات، لن تجد من يقف على الحياد.. سيولٌ جارفة من الانفعالات، يتنقل لونها بين الأسود والأبيض، دون المرور بالرمادي.

فقط في صالة السينما، يكون الوقت معلّقًا، يلج المشاهد هذا النفق المعتم، بحثًا عن منصةٍ يسقط عليها أحلامه المتراكبة والمتراكمة على هيئة شخوص، يلبسهم أمنياته وأسئلته. يختار مقعدًا منزويًا، ليقضم أظافره بحرية، ويستفرد بالغرق في حمى مشاعره، دون رقيب.

في عالم السينما الممتلئ بانعكاسات أفكارنا المجنونة، نرى تلك اللافتة المضيئة التي تشير لنا إلى جهة الاكتشاف والمتعة معًا.. فلاشات الممنوع والمجاز والخيال، في لوحة من واقع مسبوك على طريقة المخرِج/ “الإله”، تجسدها شخوص وقعنا في عشقها، ذهبنا بها إلى أسرّتنا، وأمكنتنا السرّية؛ لنبوح لها بكل ما حملت الروح من شقاء وعشق وسعادة معًا.

أي الأماكن في صالة السينما أفضل لمشاهدة ممتعة؟ هذا ليس سؤالًا، هو مجرد مقدمة لندخل دخولًا آمنًا، ونرمق صفوف المقاعد المتراصة، كطابور الجنود في دولة يحكمها ديكتاتور.

إلا أن الأمر هنا مختلف ومؤنس، إذ طالما كانت صالات السينما في سورية ملاذًا للفارين من حكم العسكر، تحتضن مقاعد الصالة خوفهم وتمنحهم الدفء الممنوع، ثم تقدم لهم وجبة دسمة من مقولات ومشاهد تعوّض القليل من الإحساس بالعجز عن الصراخ.

يجلس المشاهد في صالة السينما، كتلميذ ما زالت المدرسة تُحدث في روحه تلك الرهبة المقدسة، منتظرًا بشغف ما تمنحه الأشعة القادمة من جهاز الإسقاط الذي يوزع سحره بالتساوي على الحضور المترقب والمتعطش، للفوز بلحظات من الجمال والدهشة.

يجلس الجميع أمام سحر اللجة الفضية بلا معاطف وأجهزة تلفونات ذكية ومتخلفة، تاركين ظلالهم خارج الصالة، يجلس الطيب والشرير، المعارض والموالي، البرجوازي والكادح، المتشائم والمتفائل، كلهم تحت سطوة الحدث-المشهد-الفكرة، بالسوية ذاتها.

صالة السينما من الساحات النادرة في عالمنا التي تجمع هذا التنوع المتناقض المتنافر الشديد التباين. قد يكون من المفيد أن تقوم منظمات حقوق الإنسان بإنشاء صالات سينما واسعة، تضمّ “تجمعًا بشريًا ضخمًا”.

على وجه الخصوص، في المناطق المشتعلة التي تسعى “نخبها” لصناعة حل لا يرضي الجميع، فليكن الحل في فيلم سينمائي، بنجوم من الدرجة الأولى ومتفق عليهم عالميًا، شرط ألا يذهب الفيلم للمشاركة في مسابقات على جوائز نفيسة، حتى لا تذهب تلك “النخب” للتناحر من جديد. وقد لا يحالف مشروع المنظمات السينمائي الحظُ الوفير، إذا وجد في الصالة، أكثر من مشاهد على شاكلة “أميلي”.

في فيلم (أميلي) للمخرج جان بيير جانيه 2001، تجلس أميلي ضاحكة وسط الصالة، تتحدث عما تحبه في السينما، تخبرنا بأنها تهوى مراقبة وجوه المتفرجين من الخلف، وتدقق بانفعالاتهم، دون أن تثير انتباههم، محاولة أن تجد في الصورة تفاصيل لا علاقة لها بفكرة الفيلم، كما أنها توقف استرسالنا معها، لتخبرنا أنها لا تحب، في أفلام الأبيض والأسود، عدمَ انتباه السائق إلى الطريق.

لا تبدو أميلي مشاهدًا ناقدًا، ولا مشاهدًا بهدف المتعة، أميلي مشاهد شرير، يريد أن يقوض ظلام الصالة والحياة التي ينسجها المخرج كصور متحركة، بتشتيت الانتباه وحرف مسار الفيلم بشكل متعمد، يظهر ذكاء جان بيير جانيه، بطريقة ولوجه إلى دماغ أميلي، وتقديمه لنموذج المشاهد السلبي المولع بحل الأحاجي، والآثار الجانبية التي يتركها إبداع السينما.

أميلي لا تعرف أنها تفتقد متعة كبيرة، بتركيزها على هوامش، لا تلفت نظر مشاهد نموذجي، إلا أن المشاهد النموذجي قد يترك نفسه قليلًا، ليراقب ذرات الغبار الدقيقة السابحة، في حزم الضوء المتساقطة من غرفة العرض في الأعلى، قبل أن يتورط بالعبور إلى رواق المتعة، عبر جدلية يقدمها المخرج والسيناريست وطاقم العمل، ضمن إطار محبوك من جمال وفلسفة، تلك المتعة المحفوفة بالخطر، كأنه يركب قطار الموت في مدينة الألعاب.

حين يخرج المشاهد من عتمة الصالة إلى الضوء، يستغرب واقعه الجديد، يبحث في جيوبه عن طريقة يسترجع بها رئتيه، ليتمكن من استنشاق هواء العالم الخارجي؛ فيجد مقولة قد تنقذه: “لا تخَف من الشيطان أبدًا، فإذا كان الشيطان موجودًا؛ فهذا يعني أن الله موجود أيضًا”.




المصدر