وزارة الخارجية الأميركية زمن ترامب… من التهميش إلى التعطيل




رفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس الأول الأربعاء إلى مجلس الشيوخ، لائحة بـ46 مرشحاً لشغل مناصب عالية في عدة وزارات ووكالات فيدرالية، تستوجب موافقة المجلس على التعيينات فيها. العدد يسد زاوية صغيرة من حوالي ألف وظيفة في هذا المجال (نائب وزير ومدير عام ومساعد أو معاون وزير وسفير وغيره)، ما زالت شاغرة في سائر الوزارات والمواقع. في مقدمتها وزارة الخارجية، حيث تبلغ شواغرها المهنية ما يربو على المائتين، من بينها 7 من أصل تسعة رئيسية من معاوني الوزير المباشرين، فضلاً عن العديد من السفراء في عواصم مختلفة.

لم تشمل اللائحة سوى تعيين سفراء في 9 عواصم، غير رئيسية ما عدا ألمانيا، مع مساعد واحد للوزير في “شؤون الأمن الدبلوماسي”. وبقيت السفارة الأميركية في كوريا الجنوبية من دون سفير، على الرغم من اتصالها المباشر والهام بالأزمة مع كوريا الشمالية. كما بقي منصب مساعد الوزير للشؤون الآسيوية المعني أيضاً بالأزمة، شاغراً.

لم يأبه البيت الأبيض بهذا الشغور وانعكاساته على دور وزارة الخارجية في إدارة دفة السياسة الخارجية في العالم، على الرغم من التحذيرات من مغبة هذا الإهمال. اقترح وزير الخارجية ريكس تيلرسون أسماء عدة لمناصب معيّنة في وزارته، لكن البيت الأبيض رفضها، والعكس بالعكس. فكانت النتيجة أن تحوّلت الوزارة إلى “هيكل عظمي” بتعبير أحد المعلقين، وبما أدى إلى “هبوط المعنويات” في أجهزتها، الدبلوماسية والمهنية والإدارية. عبارة تتردد بصورة ملحوظة، حتى في أروقة الخارجية.

ثمة شكوك في أن يكون “تفريغ” الوزارة متعمداً، فليس صدفة ولا من باب الانتقام من تيلرسون، أن يتزايد ضمور حضور الوزارة ودورها في الأزمات الدولية الراهنة وتعامل الإدارة معها. لا أثر ملحوظاً لها كما هو مفترض في الأزمة الكورية، بل إن تيلرسون يتحرك على هامشها. وانضم أمس الأول الأربعاء إلى وزير الدفاع جيمس ماتيس ومدير وكالة الاستخبارات الوطنية دانيال كوتس، لتقديم عرض يضع قيادات الكونغرس في صورة آخر تطورات هذا الملف، بعد اختبار كوريا الشمالية للقنبلة الهيدروجينية. عادة في الحالات المماثلة، يقوم وزير الخارجية لوحده بعرض الشق الدبلوماسي لأزمة من هذا النوع. لكن الواضح ومنذ البداية أن ماتيس هو المدير الرئيسي لهذه الأزمة فيما بقي تيلرسون على ضفافها. وحين تولى وزير الخارجية التصدي للأزمة الخليجية لفك الحصار عن قطر، تعمّد البيت الأبيض وضع العصي في دواليب مهمته. بالإضافة إلى ذلك هو مقطوع الصلة بالملف الفلسطيني-الإسرائيلي الموكل أمره إلى صهر الرئيس جاريد كوشنير الذي يتولى أمر ملفات أخرى، مثل العراق وأميركا الجنوبية، وتكليفات محلية. ويبدو أن كل المطبخ السياسي في البيت الأبيض برعاية الجنرالات فيه، مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي الجنرال هربرت مكماستر، وكبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي، إضافة إلى جنرال الدفاع جيمس ماتيس.

إزاء هذا الوضع يسود في أوساط ونخب السياسة الخارجية، شعور مزدوج من الخشية والارتياح في آن واحد. الخشية من أن يؤدي هذا النهج إذا ما استمر أربع سنوات، إلى تآكل دور الوزارة كمؤسسة عريقة تأسست تقريباً مع ولادة الدستور، وكان أحد المؤسسين توماس جفرسون أول من شغلها عام 1790. ومنذ ذلك الحين بقيت الأداة الرئيسية لصناعة السياسة الخارجية ولو أن القرار النهائي يتخذه الرئيس. ولم يتراجع هذا الدور قليلاً إلا قبل حوالي مئة سنة في عهد الرئيس الثلاثين كالفن كوليدج (1923-1929) وذلك بتأثير أجواء التعب من المشاركة المكلفة في الحرب العالمية الأولى والحاجة إلى الالتفات لهموم الداخل. لكن هذا الدور سرعان ما أعيد إحياؤه عشية الحرب العالمية الثانية في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت. ومنذ ذلك الحين واصلت الخارجية مسيرتها التي بدأتها وترسخ موقعها كإحدى أهم مؤسسات النظام الأميركي. فهي التي تتولى هندسة ورعاية وتسهيل هيمنة المصالح الأميركية في العالم. ونظراً لأهمية هذا الموقع، يأتي تصنيف وزير الخارجية كالرجل رقم 4 في هرمية السلطة والذي يتولى الرئاسة في حالة الغياب المفاجئ للرئيس ونائبه ورئيس مجلس النواب.

الآن تعاني هذه الهالة من الهبوط. وزير ووزارة وسياسة خارجية. انعكس ذلك كما يقال، أرباحاً لموسكو وبكين وحتى لبيونغ يانغ. مع ذلك تعاملت أوساط ومرجعيات السياسة الخارجية في واشنطن مع هذا التحول بشيء من الاطمئنان النسبي بسبب الدور الكابح الذي يؤديه الجنرالات ذوو التأثير على البيت الأبيض، إذ يُنظر إليهم كصمام أمان، في ظل المعطيات الراهنة. مع ذلك بدأ بروز الدور العسكري وإن بزي مدني، يثير قلق جهات أميركية كثيرة تخشى من تغليب الطابع الأمني في آخر المطاف على السياسة الخارجية. تَقدُّم كوادر وزارة الدفاع على كوادر وزارة الخارجية في مجال هذه الأخيرة، معادلة غير مألوفة. ففي التركيبة الأميركية، المدني يدير العسكري لا العكس، لكن زمن ترامب مختلف.




المصدر