الروائي إلياس خوري في “فضاءات ضمير”


تهامة الجندي

علينا أن نتحرر من رواسب الاستبداد حتى نرى أنفسنا

“السجن -بمعناه الهندسي- هو مكان عزل ورقابة صارمة، مركز قمع وإذلال وعقاب، وإلى القرن السابع عشر كان العقاب يعني تعذيب السجين علنًا حتى الموت، لكن مع دمقرطة الحياة؛ تراجعت الأساليب الهمجية، وظهر مفهوم إعادة تأهيل السجناء، أما أدب السجون في المنطقة العربية، فقد بدأ مع ستينيات القرن الماضي، برواية (تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم و(القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي، وروايات أخرى تحدثت عن تجربة المعتقل، وكلها كانت تربط فعل الكتابة بالحرية. لكن الجديد في التجربة السورية الذي بدا واضحًا، منذ رواية (القوقعة) لمصطفى خليفة، هو أن السجن مكان اختفاء كامل وإعدام، أُضيف إليه المقتلة الكبرى بالتجويع، أثناء الثورة. السجن السوري أشبه بمعسكرات الموت النازية، ومفارقة الأدب أن خيال الطاغية أوسع بكثير من خيال الأديب، وللأمر علاقة بغريزة التوحش. خيال الطغاة لا مثيل له”.

هذا ما ذكره الروائي إلياس خوري، بخصوص أدب السجون، في ثالث حلقة من “فضاءات” حركة ضمير التي تعدها وتقدمها الشاعرة فاتن حمودي، بالاشتراك مع الكاتبين أنطوان حداد، ومازن عدي، والمنتج عماد ظواهرة، وقد أثارت الحلقة الكثير من الأسئلة المهمة من قبيل: هل فشلت ثورات الربيع العربي أمام بربرية الاستبداد؟ أم نحن أمام بداية جديدة من مراحل التغيير، باتجاه دولة المواطنة والحريات؟ ما هي استحقاقات هذه المرحلة، وما هو دور المثقف في تشكيل الوعي الديمقراطي وإعادة صياغة اللغة لتجاوز خطاب الكراهية ونزعات التطرف والطائفية؟

حول السؤال عن علاقة نصوص إلياس خوري العميقة، بقيم الحرية، ودفاعه عن الثورة السورية؟ أكد ضيف الحلقة أنه يعدّ نفسه مواطنًا، قبل أن يكون كاتبًا، وعلى المواطن أن يتمسك بقيم الحرية والحق والمواطنة، “حاولت أن أفعل ذلك، أصبتُ وأخطأت، ويشفع لي أني كنت دومًا إلى جانب الفقراء والمظلومين. وُلدتُ عام النكبة، وتفتح وعيي على هزيمة حزيران وأيلول الأسود، ومن ثم الحرب اللبنانية الأهلية التي لم تنتهِ بعدُ للأسف، واليوم نعيش أهوال الثورة المضادة. مذ وُلدنا، نحن نعيش في هذه الدوامة المرعبة، ولا نزال ندفع أثمانًا باهظة. في الحرب اللبنانية لم نصطدم بالأصولية الدينية، اصطدمنا بالنظام السوري وبإصراره على تصفية الحركة الوطنية اللبنانية والحركة الفلسطينية”. وأضاف الخوري: “المفارقة المرعبة أن قائد هزيمة حزيران على الجبهة السورية، قام بانقلاب واستلم مقاليد الحكم في سورية، وتعاملت الأنظمة العربية، مع هذا الحدث الخطير، بخفة متناهية، ومع الربيع العربي؛ استيقظ الأمل بالخلاص من الأنظمة التي احترفت الاستبداد والكذب وقتل الشعب الفلسطيني، باسم القضية الفلسطينية”.

لم يتوقع أحد أن يفتح الجيش النار على المتظاهرين السلميين، وأن تُستخدم تلك الأساليب الهمجية لقمعهم، في الفترة الأولى التي لم يكن أحد منهم يحمل السلاح، كان غياث مطر يوزع الورد والماء، حين اعتقلوه وأعادوه إلى أهله قتيلًا مشوه الجسد، وقبلها كان تعاملهم مرعبًا مع أطفال درعا، وجثة حمزة الخطيب آية، لم يتوقع أحد أن يكون شعار “الأسد أو لا أحد” حقيقة، وإذا افترضنا انتصار الأسد؛ فهذا يعني انتصار اللا أحد. كذلك لم يكن متوقعًا أن تصبح الأرض السورية مرتعًا للجيش الروسي والإيراني وميليشيات “حزب الله”، ومقاتلي “داعش” و”النصرة” الذين داسوا علم الثورة والناس. “سورية باتت تحتاج إلى حركة تحرر من الاستبداد والاحتلال”.

كيف لنا أن نتحلى بالأمل، أمام صوت الأسلحة الفتاكة وسقوط العالم أخلاقيًا؟ سألت فاتن ضيفها، فقال: على المثقف أن يتواضع، ويتعلم من الناس العاديين القدرة على الصبر والاحتمال، أولئك الذين يعيشون في ظروف وحشية، تلاحقهم القنابل والسجون، علينا أن نتعلم منهم قوة الصمود والبقاء ولغة الضمير العميق. وعلينا أن نتمسك بالقيم الأولى لثورات الربيع العربي، الكرامة والحرية والخبز. دفعنا ثمن كسر جدار الخوف غاليًا جدًا، وهذا يمكن أن يكون سلاحنا، ليس للأمل فقط، إنما لما بعد الأمل.

حول موقف المثقفين من الثورة السورية، وانقسامهم بين موال للنظام ومعارض له؟ أشار الخوري إلى أنه: ليس من الغريب انقسام المثقفين واختلاف مواقفهم، هذا يحدث دومًا، تبعًا لمصالحهم وميولهم، لكن أخطر ما يمكن أن يصيب المثقف هو تحوله إلى حاجب لدى السلطان، وهو ما حدث للأسف مع بعض مثقفيّ سورية، غير أن الجسم الأساسي في الثقافة السورية أثبت -بأغلبيته الساحقة- أنه يمثل ضمير الشعب السوري، على الرغم من ضعفه وهشاشته، وتعرضه لأسوأ أشكال القمع منذ خمسين عامًا. قدمت الثورة نماذج ثقافية رائعة: النصوص التي تنبئ بولادة الرواية السورية الجديدة، شعارات كفرنبل، رزان زيتونة ومجموعتها، كلها نماذج كفيلة بإعطاء الثقافة السورية نبلًا غير عادي.

في ما يتعلق بالطائفية، رأى الخوري أن الطوائف في بلادنا موجودة تاريخيًا، وهي دليل على التنوع والحيوية، غير أن الطائفية مرض قديم، يتحمل مسؤوليته الجميع، وليست الأنظمة فحسب، الطائفية هي التمييز، وهي صنيعة الدول الأجنبية بالتحالف مع قوى محلية، لتكون سلاحًا لترويض الناس واستغلال الطوائف، ومواجهة الطائفية والتجييش الطائفي لا تكون إلا بمشروع وطني ديمقراطي ودولة العدالة، أن تصبح الدولة تعبيرًا عن الناس كلهم، والنضال ضد الطائفية أساس للوصول إلى المواطنة والمساواة.

في تعريف المثقف وماهية دوره في الثورة والمرحلة القادمة، اعتبر الخوري أن المثقف هو الذي يتعاطى مع القضايا العامة، وأن مرجعيته هي أخلاقه وضميره وانتمائه إلى الناس العاديين، وأضاف أن مثقفينا لم يكونوا على قدر من المسؤولية التي افترضتها ثورات الربيع العربي، وذلك نتيجة تبعات العلاقة مع أنظمة التحول الاشتراكي التي قامت بتأثير الاتحاد السوفيتي، وأكبر نموذج هو الثقافة المصرية التي يهيمن عليها اليسار، وبالتالي السلطة.

منذ رفاعة الطهطاوي، نشأت الثقافة العربية الحديثة في ارتباط مع السلطة (محمد علي)، وتجددت هذه العلاقة في خمسينيات القرن العشرين، مع ظهور مفهوم التطور اللارأسمالي، وصولًا إلى وقوف قسم كبير من المثقفين اليساريين مع المستبد، على أساس أنه أفضل من الفوضى وأقل الشرور، “دخلنا ثورة ديمقراطية من غير أن يكون لدينا ما يكفي من الوعي الديمقراطي”، والوعي الديمقراطي لا يعني استيراد التجربة الإمبريالية المتوحشة، بل يعني الوعي الذي يرتبط بمشكلاتنا الداخلية، بالحريات العامة والعدالة الاجتماعية، ويعني أن يفك اليسار نفسه عن تجربة الأنظمة الاستبدادية. كذلك فإن إحدى مسؤوليات المثقف في المرحلة الراهنة أن يعيد للغة العربية معناها وصدقيتها، بعد أن باتت مستباحة ومهانة على لسان الطغاة، “حزب الله” يتباكى على الحوامل في قافلة (داعش)، ولم يهتز له جفن لمجزرة الكيماوي.

في ما يخص الوضع في سورية، رأى الخوري أن المثقفين لم تكن لديهم القدرة الكافية على استيعاب وحشية النظام وابتكار آليات لمواجهتها، وهذا النقص له علاقة بموروث الاستبداد الذي حول البلد إلى صحراء، بلا نقابات ولا اتحادات ولا أي شكل من أشكال التجمعات المدنية، والمشكلة أن معظم مثقفيّ الثورة وجدوا أنفسهم إما في السجون أو في المهاجر، ويجب استغلال واقع التهجير والهجرة من أجل العمل على خلق روح جماعية وطنية سورية والتأثير على الرأي العام العالمي، فالبناء الثقافي الجديد عمل جماعي يقبل التعددية والحوار والآراء المختلفة، وعلينا أن نتحرر من مركبات الاستبداد؛ حتى نرى أنفسنا بشكل حر وكامل.




المصدر