دي ميستورا وخيوط العنكبوت


عقاب يحيى

كان المخضرم الدبلوماسي الجزائري والوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي شديدَ الوضوح، حين وصل إلى الباب المسدود في مهمته، وأدرك أن النظام السوري، مدعومًا بقوة من روسيا، يرفض أي خطوة حقيقية تجاه الحل السياسي، وتطبيق بيان جنيف 1؛ فأعلن استقالته من مهمته، وتحدث صراحة عن الأسباب.

من جهته، يعرف الوسيط الأممي ستيفان دي ميستورا جيدًا التعقيدات الكبيرة التي حالَت -وما زالت تحول- دون تطبيق قرارات الشرعية الدولية، والتي تعود بالأصل إلى تعنّت النظام السوري الرافض في بنيته ورهاناته لأي حلول سياسية، أو خطوات مُمهّدة للانتقال السياسي، مستندًا بذلك إلى وقوف روسيا بقوة معه، ويُدرك بخبرته وحنكته، وما عُرِف عنه من قدرات في المناورة والالتفاف أن الولايات المتحدة غائبة تمامًا عمّا يجري، أو أن أولوياتها بعيدة عن الاهتمام بالوضع الداخلي السوري إلا ما يتعلق براية محاربة الإرهاب، كما تُعلن باستمرار منذ تولي الإدارة الجديدة، وأن الإدارة السابقة منعت، بكل الثقل الأميركي، تحقيقَ حسم عسكري لصالح المعارضة، حين كان ذلك متاحًا أواخر العام 2012، وأنها خرجت بقرار أملته على الدول الأوروبية وأصدقاء الشعب السوري، يُعلن منع أي حل عسكري، والتوجه نحو الحل السياسي الذي لم تضع ثقلها فيه، بل لم تفعل شيئًا، حين كان النظام على وشك الانهيار، وقامت إيران بنجدته واستدعاء عشرات الميليشيات الطائفية، وعلى رأسها “حزب الله” اللبناني، وحين لم ينجح هذا الحشد الكثيف في منع تدهور النظام، أو تحقيق انتصار على قوات المعارضة المسلحة، سكتت على التدخل العسكري الروسي الموصوف بـ “الاحتلال”، وما فعله في الشعب السوري، وفي المدنيين بالتحديد، والبنى التحتية، وما زالت بالذاكرة الخطوط الحمراء التي أطلقها الرئيس الأسبق باراك أوباما، إذا ما استخدم النظام السلاح الكيميائي، وكيف تحوّلت إلى ألوان مختلطة أفضت إلى اتفاق مع روسيا، يتجاوز نزع السلاح الكيميائي إلى توافقات عامة على العديد من المسائل، ومنها الوضع السوري.

عايَشَ دي ميستورا كل هذه التطورات، ويعلم تفاصيل التفاصيل، ويُدرك أن المرحلة روسية بامتياز، عبر ما يشبه التفويض الأميركي، ولكنه يتجاهل هذه الحقائق، أو يلتفّ عليها كي يستمر في مهمته، دون أن يتجرأ على إعلان فشله الصريح، لذلك كان يبتدع مبادرات وأفكارًا لملء الفراغ، يتجاوزها ثم يعود إليها، ثم يخلط ترتيبها فيما عُرف بالسلال الأربع، ويُغيّر أولوياتها وأسسها لانطلاق عملية الانتقال السياسي التي كانت هي المدخل، عبر تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة، والتي تراجعت إلى مرتبة متأخرة، ويمكن أن تحذف وفق المشروع الروسي وخطواته.

ولأن دي ميستورا يريد البقاء، ولأنه يعي أن روسيا هي التي تقود الوضع السوري؛ لم يجد غير المعارضة دريئة يُوجّه إليها السهام، ضمن حملة الضغوط الكثيفة التي تُمارسها جهات عديدة بشكل مباشر وكثيف، أو عبر رسائل ملتبسة.

آخر “إبداعات” دي ميستورا “نصائح” للمعارضة، بأن تعي وتستوعب الوقائع التي تقول إن المعارضة مهزومة، أو إنها فشلت في الحسم العسكري، وأن عليها أن تستجيب للمعطيات الراهنة التي تعني صراحة تغيير مواقفها، وخصوصًا ما يتعلق بثوابتها التي تتناول الموقف من موقع ودور المجرم بشار الأسد وكبار رموز النظام، والانضواء في المشروع الروسي، وقصة توحيد المنصات والوفد الواحد.

يحدث ذلك ضمن مفارقة عجيبة، حيث إن الأمم المتحدة أعلنت، بعد التحقيقات التي قامت بها، أن النظام هو الذي استخدم السلاح الكيميائي في خان شيخون، بصراحة وجلاء، وبدلًا من أن يكون لهذا التقرير الخطير دلالاته السياسية في تشديد الموقف من نظام قاتل، ومعاقبته لخرقه قوانين الأمم المتحدة، ومواثيق حقوق الإنسان، والانحياز إلى جانب الشعب السوري الضحية، يُعلن دي ميستورا انحيازه -العملي- إلى جانب النظام وداعميه، ويُمارس ضغطه على المعارضة كي تستجيب لما يعتبره تطورات واقعية، وحين قوبلت تصريحاته بالإدانة الصريحة من الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات، ومن أوساط دولية عديدة راح كعادته يُحاول ترقيع ما فعل في “توضيح” معاني مقاصده، وأن تصريحاته فُهمت خطأً على غير ما قصد!. وأنه ليس متحيّزًا لأي من الطرفين!

نعم المتغيّرات كبيرة، والضغوط شديدة ومتنوّعة، والكثير يُطالب قوى المعارضة “أخذها بالاعتبار”، أي إعادة النظر بالمواقف التي اعتُبرت ثوابت للثورة السورية وحق الشعب، إزاء مجرم من طراز استثنائي.

على الرغم من وعي خلفيات هذه التطورات وآثارها، والمحاولات الروسية لفرض وقائع على الأرض، والبحث عن بدائل للمعارضة السياسية، أو محاولات تركيعها، أو تصنيع معارضات “مرنة”، فإنه ليس من حق أي جهة، أو هيئة سياسية، أن تتنازل عن حقوق الشعب السوري. على العكس، فإن التمسك بالثوابت، وامتلاك القدرة على التعامل مع المتغيّرات، وبناء معادلة صحيحة ترتكز بالأساس على قدرات الشعب السوري وفعالياته، وعلى دعم الأشقاء والأصدقاء، هو السبيل الوحيد المنسجم مع جوهر الثورة وأهدافها التي يُحاول الائتلاف التمسّك بها، وسط العواصف الروسية والمواقف الدولية المتدحرجة.




المصدر