هاني نديم: الشاعر المتدرب على معايشة الشعر


إبراهيم الزيدي

الشعر حيلة المكسورين الأكثر كبرياءً، حيلة البواشق حينما تقع في الفخ

امرأة، بكامل حضورها، تتكئ واقفة على مقعد، وقد ثنت عليه إحدى ساقيها، تصدح بأغنية يقول مطلعها: (نصف صباح بيروت أغان، ونصفه توت، وجلّ البلاد تراب، وقليلها ياقوت). إنها المغنية اللبنانية أميمة الخليل، وإنها كلمات الشاعر السوري هاني نديم، لم تكن أغنية، كانت مرثية بين عينين تدمعان (الشام وبيروت)، ولم تكن كلمات هاني نديم كلمات، كانت جراحًا تنزف شوقًا. وأنا المشرد بين هاتين المدينتين، وجدتني أبحث عن أسئلة تليق بهذا الحزن المكين، بذريعتها أتداول سوريّتي مع ذلك القلموني المشاغب. أردت أن أعجن معه طحين الأسئلة، لعل خبزنا يشبع متابعًا هنا.. أو هناك..

في حوارك مع قناة العراقية الإخبارية، تقول: خطورة قصيدة النثر أنها حولت القارئ إلى شاعر، وهذا كلام دقيق، ألا يمكن أن يفضي ذلك الإنتاج الكمي، إلى إنتاج نوعي، مع تقادم الزمن؟

صحيح، أؤمن بالفرز الطبيعي دومًا وفي كل المجالات، إنما مع تقادم الزمن أيضًا تهترئ الأطراف، ما لم يكن الأمر “متواترًا”، بمعنى أن يكون متصلًا كتواتر المعلقات التي وصلت إلينا كما هي عليه منذ الجاهلية، بينما الكثير من المفاصل التاريخية المهمة ضاعت أطرافها بانقطاع هذا التواتر أو التكريس. اليوم في الشعر العربي هنالك فوضى هائلة، في التقديم والتأخير، والتغييب والتهميش، والتكبير والتصغير. أنصاف المواهب أكثر مما نعتقد، لهذا هم يدفعون –بالضرورة- نحو مواهب أقل منهم عطاءً، وهكذا تدور العجلة الأدبية بعيدًا عن طريقها الرفيع.

تابعت حوارك مع قناة بلادي العراقية، عام 2013، والحديث عن الشعر وبغداد، استوقفتني بحة الحزن في صوتك، ولم ألحظ ذلك في كلامك، هل يمكن للشاعر أن يقف فوق ركام مدينة كبغداد، ويتحدث بكل تلك الأريحية، عن الشعر؟!

لا أعرف إن كان للشعر مصادره السعيدة، إنه حيلة المكسورين الأكثر كبرياءً، حيلة البواشق حين تقع في الفخ.. فكيف إن تلاقى هذا الحزن بحزن مدينة عظيمة شامخة رغم انكسارها كبغداد! إنها المدينة الأكثر غرابةً في التاريخ، الأكثر شعرية ومفارقةً، هذا النهر الذي يقطعها كالسيف تعود القصائد لترتق الماء وتبني جسورًا.. الغناء المكتوم فيها.. النساء الجميلات الحييات، مدينة تركيبتها حزينة كأمهاتنا. لهذا من المستحيل مخاطبتها إلا بالشعر، وبأصدقه وأعذبه تحديدًا.

يقال إن حجة الشاعر أن يأتي بشيء خاص به، ما هو الشيء الخاص بك؟

لست أكيدًا من أنني أمتلك خصوصية حقًا، هذا الكلام ليس تواضعًا، ولكني أكيد من أني مغامر في اللغة والشعر، أخرج كثيرًا عن المسار، من دون أن أحسب حساب ازدحام الطريق بالنحويين والخليليين والشعراء المتنطعين! أخرج كيفما أريد، وبما يمليه عليّ قلبي. انتهيت من فكرة إثبات المقدرة الشعرية، تخلصت من القارئ منذ زمن بعيد.. لعل هذا ينتهي إلى شيء تحمد عقباه.

كثير من الشعراء العالميين تحدثوا في العلوم رامبو، جان جونييه بودلير وغيرهم، ونحن ما زلنا نتحدث عن الاستعارة، والصورة الشعرية، وقواعد النحو!! هل الشعراء العرب، وأنت منهم طبعًا، تعيشون زمنكم؟

هذا سؤال زلق وخطير! لا يا سيدي، بالمقابل ييتس يقول: الأدب عدو العلم، الخيال عدو الحقيقة، لم يخلق الشعر والأدب ليثبتوا حقائق علمية، بل العكس، ليهدموا ما بناه العلم إن شئت! ثمة شعراء كثر يعيشون زمنهم، أما أنا فهل أعيش زمني؟ لا.. أنا أشعر أنني أراوح بين 1950 و1980، كل ما أحبه محصور هنا.

من يملي عليك: الشاعر أم القارئ؟

أنا من يملي عليّ دون أيّ مواربة، أنا مالك عقار أرضي الأدبية، أوزعها كيفما أريد، دون أي خوف أو حساب، ودون أن ألتفت إلى أحد.

أود لو تحدثني عن أثر البيئة في شعرك، لا أعتقد أنها النبك، كأني بالقلمون كلها بين عينيك!؟

صحيح، إن شئت هو القلمون الكبير، الجبل الغريب من أوله إلى آخره، ذلك الجرد الذي طبع لغتي وملامحي وجسدي وصوتي بملمس ما! إلا أنني تحررت باكرًا من المكان ووطأته، ولو جسديًا على الأقل، فأنا اليوم من بلد إلى بلد، بحكم عملي، من كينيا إلى السويد ومن كوريا إلى اليمن، هذا الترحال تفوق أخيرًا على أحادية اللفظ والصوت. صرت “أطرى” -إن جاز التعبير- أطرى وأكثر تحركًا في المشهد داخل النص. لا ثيمة تحدني ولا تبعة أخلاقية، فالمفردة يورثها المكان الأول.

هل ثمة كتّاب، يمكن أن نقول إنهم رفدوا عبارتك الشعرية؟ ومن هم أولئك الكتاب؟

لا شك، لقد أولعت بالكتب والكتّاب، بداية عمري، بشكل مجنون. لقد تمكّن مني الجاحظ والمتنبي وابن المقفع وابن عربي وابن الفارض، وأسياد التراث العربي، بداية حياتي، بشكل أثر في لهجتي وطريقتي في المعيشة. في مرحلة لاحقة؛ هجم الأدب الروسي على كل شيء من حولي: أدب تشيخوف ودستويفسكي وتولستوي.. وغيرهم. ثم الأدب الفرنسي: أدب بودلير وموليير وهوغو وشار. لقد استفدت من كل شيء حولي شعريًا، سينما وتشكيل ونحت وموسيقا وأصدقاء وأماكن، وكل شيء يمكن لك أن تتخيله.

أي مقارنة بين حضور الأمسيات الشعرية وحضور الحفلات الغنائية، تنحاز النتيجة لصالح الحفلات الغنائية، علمًا أن الأغاني هي قصائد، فهل القصيدة تحتاج إلى إضافة لمقوماتها الشعرية، تحتاج إلى مقومات صوتية لتصبح قيد التداول، وما هي آفاق تعاونك مع بعض المطربين، أميمة الخليل مثالًا؟

في كل مكان وزمان، جمهور الشعر هو الأقل، من وجهة نظري، إلا أن الأمر استفحل في العقود الأخيرة، وأعتقد جازمًا أن الشعراء هم سبب هذه القطيعة بين الشعر والمتلقي، وبين الشعر والأغنية. لقد بالغوا في إثبات نخبوية الشعر وترفعه عن الكلام؛ حتى أصبح لغة ثالثة آتية من كوكب آخر، لا تحبها العامة ولا تأنس لها. نعم يحتاج الشعر إلى التحرر من تلك النزعة، نحو الضبابية والتهويم. بالنسبة إليّ، فأنا خط سيري في تلك المساحة معروف، ويتفهمه أصدقائي من المغنين، فأنا لا أكتب تحت الطلب، مهما كان الموضوع جميلًا، هذا يحرجني بيني وبين شعري الذي أحترمه، فلا أتعيش منه ولا أتمسح به أو أسترضي. غالبًا يحصل الآتي: يقرأ المغني نصًا لي، ويستأذنني في غنائه، وأوافق بكل سرور. وهذا ما جرى مع السيدة العظيمة أميمة خليل.

لم ينته الحوار مع هاني نديم، والاستدراك ليس مجديًا معه أيضًا، لذلك، لم أستطع فتح ملفه النقدي، وتركت الصمت يداعب دراستيه النقديتين، ولم أقترب من إنجازاته المسرحية التي بلغت 9 مسرحيات، ولم ألتق به، بصفته الإدارية بشركة خدمات صحفية عالمية، أو رئيس القسم الثقافي في الوسط. لقد تحدثنا كما يتحدث الأصدقاء؛ فكان هذا الحوار.




المصدر