البيئات الحاضنة تبلسم جراح أطفال اللاجئين السوريين



تركت الحرب السورية آثارَها على آلاف السوريين بشرائحهم المختلفة، وتعمقت مآسيهم، بفعل ظروف اللجوء، ولم تتوقف معاناة الطفلين مريم وأنور، بعد خروج عائلتيهما من سورية هربًا من الحرب والقصف ولجوئهما إلى تركيا، حيث كانت بانتظارهما معاناة اللجوء؛ لتفعل فعلها وتترك بصماتها القاسية عليهما.

يتميز مجتمع اللاجئين السوريين، في مدينة غازي عنتاب التركية، بأنه مجتمع هشّ، حيث تكدّس آلاف السوريين الذين فروا من جحيم الحرب في الأحياء الشعبية والفقيرة، وسط شروط غير صحية، بفعل ارتفاع تكلفة السكن.

تعاني هذه البنى الاجتماعية من التفكك، بفعل انتشار ظاهرة الطلاق والهجر وغياب الأب، إذ إن الكثير من الآباء قُتلوا بالحرب أو هاجروا إلى دول أوروبية، فيما تنتظر أسرهم “لمّ الشمل” الذي طال أمده، وتضطر الأمهات، إلى البحث عن عمل يعيل الأسرة، ولا يجد الأطفال متنفسًا إلا في الشارع، حيث يبيعون المناديل أو يجمعون المواد البلاستيكية من القمامة.

في ظل هذه الأوضاع من التهميش والحرمان، يعيش آلاف الأطفال السوريين، وقد تُركوا من دون عون أو دعم، ولم تصل إليهم مشاريع وجهود المنظمات التي تعلن في برامجها أن العمل مع اللاجئين في مقدمة أهدافها.

في أحد هذه الأحياء الفقيرة، قرب منطقة “تشارشي”، أسست جمعية (قوس قزح) التي تعنى بأطفال الشوارع والمتسربين من التعليم، مركزًا للأطفال يسعى لتوفير بيئة مرحبة بالطفولة. أقيم المركز في بيت يشبه البيوت القديمة في دمشق وحلب، حيث يتألف من فسحة سماوية تتوزع حولها غرف، حوّلت الغرف إلى قاعات للتعليم والأنشطة، يعتمد المركز اعتمادًا أساسيًا على جهود متطوعين سوريين، من معلمين وفنانين، ويعمل على بناء قدرات هؤلاء الأطفال عبر تقديم الدعم النفسي والتعليمي الذي يشمل تعليم المبادئ الأساسية في اللغة العربية والرياضيات، من أجل تأهيل الأطفال تمهيدًا لدخولهم المدارس.

مريم وأنور طفلان التحقا بمركز (قوس قزح). كانت مريم تعاني من الخجل الشديد والانطواء على نفسها، بسبب العزلة الاجتماعية التي عاشتها مع أسرتها في طريق نزوحهم المتكرر في سورية، قبل وصول الأسرة إلى تركيا.

لقد حُرمت مريم من أبسط المهارات الاجتماعية، مثل القدرة على التحدث مع الآخرين واللعب مع أطفال في سنها، وتركت أهوال الحرب أثرَها عليها؛ فهي تعاني من صعوبات في النطق والتأتأة، وتتجنب الاحتكاك مع الأطفال الآخرين خشية أن يسخروا منها، فهي لا تثق بالآخرين وتخاف أن يمارسوا العنف ضدها.

تبلغ مريم من العمر تسعة أعوام، وتعيش مع أسرتها الفقيرة جدًا. تقول مسؤولة الحماية في المركز: مريم طفلة طبيعية، لكنها، بتأثير الذعر والخوف من القصف وسط بيئة الحرب، حُرمت من التعليم واكتساب المهارات الحياتية للأطفال في سنها.

ما الذي حصل مع مريم في المركز؟ إن برنامج الدعم النفسي والجلسات الجماعية للأطفال، مكنهم من التعبير عن أنفسهم وزاد قدرتهم على التواصل. ويحرص العاملون في المركز على عدم الضغط على الأطفال، ومنحهم الوقت الكافي ليتعافوا من آثار الحرب.

كل ذلك ساعد في تبدل شخصية مريم، حتى إن معلمتها تفاجأت بسرعة تحسنها وزيادة ثقتها بنفسها وارتفاع تقديرها لذاتها؛ فلم تعد تخشى الحديث مع الآخرين، وأصبح لديها أصدقاء تلعب معهم، وهي اليوم تقرأ وتكتب، وتمكنت من الالتحاق بالمدرسة.

أما أنور فهو طفل يأسرك جمال وجهه، وهو يتحدث عن متعته وفرحه بالرحلات والأنشطة التي يشارك فيها في المركز، وعن شغفه بالرسم، حيث شارك في معرض لرسوم أطفال الحرب في البوسنة.

كان أنور يعاني من نزعة العدوانية ونوبات غضب، إضافة إلى أنه قليل الكلام لا يتحدث مع الآخرين، بل كان يعبّر عن انزعاجه وتوتره، بضرب رفاقه وتخريب ألعابهم؛ ما جعلهم يتجنبون اللعب معه، وكان يتحدى توجيهات المعلمين، ويسبب الفوضى في الصف. لقد كان خارجًا عن السيطرة، وفكروا في إبعاده لشعورهم بالفشل في التعامل مع حالته، لكن والدته طلبت بإلحاح مساعدته قائلة: لا أريده أن يعود للشارع.

من حسن الحظ، أن الاختصاصية النفسية لاحظت أن أنور يحب الرسم، وعندما تتوفر بين يديه ألوان وأوراق، فإنه يستمر بالرسم دون ملل. لقد كان الرسم وسيلة أنور للتعبير والتواصل، ويُرجع الطبيب النفسي العدوانية -عند أنور- إلى فقدانه والده في عمر صغير؛ إذ إنه كان في الخامسة من عمره، يوم شهد مقتلَ والده وأخيه بأم عينه، عندما سقط صاروخ على منزلهم.

يومها غطى الغبار كلّ شيء أمام أنور، وتغيرت حياته. يعتقد الكبار أن الأطفال ينسون، لذلك لم ينتبه أهل أنور إلى حالته، لكن المحللين النفسيين يؤكدون أن الأطفال يتأثرون بالأزمات، غير أنهم لا يستطيعون التعبير عن حزنهم وقلقهم بالكلام، ويظهر اضطرابهم من خلال سلوكهم وتصرفاتهم. وكانت ردات فعل أنور على المأساة هي اللجوء إلى التمرد والعدوان. شاركت والدة أنور في جلسات التوعية. وبفضل جلسات العلاج الجماعي وأنشطة الرسم والغناء، ضمن برنامج التأهيل النفسي والاجتماعي؛ نجح أنور في الالتحاق بالمدرسة النظامية، وهو اليوم يتابع تعليمه.

إن عيش الأطفال في ظروف الحرب والنزوح المتكرر يزعزع نموهم الجسدي والنفسي والاجتماعي، فتظهر لديهم ردّات فعل متنوعة تختلف من طفل إلى آخر، ولا يملك الأطفال القدرات الذهنية الكافية التي تسمح لهم باستيعاب الخبرات الصادمة، وإعطائها معنى. يضاف إلى ذلك عدم قدرتهم على التعبير الكلامي عن معاناتهم؛ مما يؤدي إلى الكثير من الاضطرابات في المشاعر والسلوك، ويزيد من عوامل الخطورة حرمان الأطفال من الدعم النفسي والاجتماعي، وغياب الوالدين، وغياب الحوار بين الأهل والأطفال؛ لأنهم أيضًا يشعرون بالإجهاد والإنهاك النفسي.

إن تأثر الأطفال وردّات فعلهم في الأحداث الصادمة قد تظهر بعد الحدث مباشرة، أو بعد أيام أو شهور، وعادة ما تظهر ردّات الفعل الحادة عند الأطفال المتواجدين في مكان الحدث، وعندما يمر الأطفال بخبرات مؤلمة؛ فإنها قد تؤدي بهم إلى اضطراب ما بعد الصدمة، ويعرّف الدليل التشخيصي والإحصائي للرابطة الأميركية للطب النفسي اضطراب ما بعد الصدمة بأنه: فئة من فئات اضطرابات القلق الذي يعقب تعرض الفرد لحدث ضاغط نفسي، أو جسمي في بعض الأحيان.

إن أهم الأعراض التي يمكن رصدها عند الأطفال هي:

الخوف والهلع الشديد والرعب من الغرباء. التعلق الشديد بالأهل أو ما يسمى بقلق الانفصال. اضطرابات النوم، حيث يستيقظ الأطفال في الليل فزعين من كوابيس مزعجة، لها علاقة بالأحداث، أو زيادة في ساعات النوم عن المعدل الطبيعي. الابتعاد عن الآخرين والميل إلى العزلة والانسحاب الاجتماعي. نوبات الغضب أو الهيجان المصحوب بسلوك عدواني.

يؤكد علماء النفس أن استجابة الأطفال للأحداث الصادمة تكون إما بالهروب أو بالمقاومة، ويتجلى الهروب بالعزلة الاجتماعية والانطواء لفصل النفس عن الأحداث المؤلمة، بينما تتجسد حالة المقاومة وتظهر من خلال نزعة العدوانية. ونظرًا إلى أنهم لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم وهواجسهم بالكلمات؛ فإنهم قد يضربون الأولاد الآخرين، عندما يشعرون بالتوتر أو الخوف. إن الشعور بالألم والجرح النفسي يولد شعورًا بالغضب والإهانة، ويولد رغبة في الانتقام ومهاجمة الآخرين.

الأطفال هم مستقبل أي مجتمع، وتركهم من دون تقديم الدعم والعون اللازم، وتوفير فرص التعليم، يعني أننا سنكون أمام جيل معتلّ نفسيًا، يميل إلى العنف، ويعاني الكثير من الاضطرابات النفسية؛ لذا من المؤكد أن توجيه الجهود والمبادرات الرامية إلى العمل مع الأطفال ينبغي أن يكون على رأس الأولويات الآن.




المصدر
كبرياء الساعور