‘“مملكة الأصوات البعيدة”’
19 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
[ad_1]
تبايَنَ الرأي في تصور ماهية القصة القصيرة، من حيث هي لقطة أو مشهد أو موقف، فهي إما تركز على شخصية أو فكرة أو صدمة ما، فيها تكثيف لمعنى يتم اختزاله في صفحات قليلة، تنوس بين الحكاية والأقصوصة، وفيها من الحرفية والصعوبة بمكان، لجهة المقدرة على الإيجاز وبلورة فكرة أو موضوع، يشكلان نغمًا ذا صدى عند متلقيه. هذا الصدى ترددت ترجيعاته لدينا، عند قراءة مجموعة أحمد الزلوعي (مملكة الأصوات البعيدة)، وهي من إصدار (روافد) للنشر والتوزيع؛ إذ تنوعت مناخات المجموعة ما بين روحانيات ذات طبيعة صوفية، حيث عالمُ الماورائيات يرخي بظلاله على بعضها، مثل “طاقة القدر- الحلم السابع – كفر الشجرة – الذين يرثون الأرض”، وصور مختلفة من الحياة تشكل موتيفات حركية نابضة لألوان من الحكايات.
(طاقة القدر) رصدت الجوَّ الصوفي في فهم العلاقة الروحانية والبيئة المؤثرة على العالم النفسي للذات المنفعلة بتجلياته، فالبطل الذي رأى العالم النوراني في كوة خلوته، بصفاء روح من ملائكة وكائنات نورانية تشعّ ضياء، اعتبرها طاقة قدر جاءته بعد انقطاع للتأمل والعبادة، يعود بعدها حفيده المهندس ليرى من غرفة المراقبة صورًا تبثها الأقمار الصناعية لافتتاح المدينة الجديدة مبهرجة بالأضواء والأنوار والإشعاعات، في شيء من المزاوجة بين الفهم اللاهوتي للظواهر والعلم، أو شيء من المصالحة بينهما، أو ربما أراد أن يقول لنا إن عالم الروحانيات لا يلغي العلم أو ربما هو نوع من خلط أوراق هربًا من اصطفاف ما. احتمالات عديدة، لعل أهمها أن تفسير كل ظاهرة يرجع إلى بنية وتفكير من يحللها.
(الحلم السابع): ما زال التنازع بين غواة الغيبيات ومناصري العلم، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاج من آلام مستعصية. فالزلوعي يتعامل بذكاء، بطريقة تناوله للأمر الذي يجلب بعض الراحة والاطمئنان لمن فقد الأمل من قاصدي “الشيخة عفّت”، ولكن الألم يبقى ألمًا، والمشكلة تبقى مشكلة، والعلم الحديث تطرق إلى العلاج عن طريق الإيحاء، وهذا ما ينجح به ما يقال عن الحظوة التي تتهيأ لأصحاب الكرامات وسواهم، حيث استمرت مشكلة عدم الإنجاب عند الحاجة سهير، وكذلك الألم عند فتحي، على الرغم من تنازع تأثره بين صديقه أستاذ الكيمياء من جهة، والجو العام للشيخة، حيث يقدم شخصيتين متعارضتين في الانتماء، تجسدان عالمين على طرفي نقيض.
(كفر الشجرة): طقس الشجرة الموحية بالنماء والبركة العميقة الجذور الباسقة الأغصان والوارفة الظلال، وبالأخضر تتجلى وتشابه طغيانًا طقوسيًا عند أهل القرية؛ ذا بعد روحي يجلب اللعنة لكل من ينتهكه، وعندما قطعت غصبًا عنهم؛ أخذ كل منهم جزءًا منها وزرعه في داره، بعد النكبات التي حصلت بعيد اقتطاعها في مزاوجة بين الإحساس الديني بالشجرة المباركة والمعنى المجرد للشجرة، من حيث الجذر الضارب بالأرض والخير العميم الذي تمثله.
(الذين يرثون الأرض): يضمن الأقصوصة بالآية الكريمة: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} باستثمار ذكي للبعد الغيبي في المسألة، متماهيًا بالطقس الروحاني للقصر؛ إذ سكنه أحد الملاك، ومن بعده استولت عليه جهات متنفذة، ليصبح بعدها أحد الدوائر الحكومية، ويعود بعد إهمال إصلاحه ومحاولة ترميمه، باعتباره أثرًا معماريًا مرتعًا لباعة الخضار ومأوى لصبية الشوارع، ومكانًا شعبيًا للبيع والتداول.. وهكذا ومن دون قصد، كان من نصيب وإرث الفئات المغمورة من المجتمع.
ولعل حجر العقد (مملكة الأصوات البعيدة) التي أعطى القاص اسمها، ليتصدر عنوان المجموعة، وفيه سرد بأسلوب جميل لشكل انصهار الرواية في ذهن الراوي هاجس الأصوات التي تؤرقه وتعذبه، يسمعها ويحسها تيارًا يتدفق في ذاته حيث تصبح جزءًا من كيانه، ليعيش مخاضها وفرحة لقائها بالنور، أي فرحة نقشها على ورق يعيد إحياء ما اعتمل بذهنه من حيوات، في حكاية نابضة وقصص متخيلة.
(يوم سعيد) و(تجوال ليلي): ترصدان كآبة الإنسان المعاصر، وغربته الروحية، عندما تتزاحم خيباته وردّات أفعاله الناتجة عن إحباطه وحصار حياته المحدودة وركضه اللاهث وراء لقمة العيش، ليفتح على نص (انفجار إطار أمامي)، فحادث انفجار إطار حافلة النقل عطل مشاريع حيوية لمجموعة من البشر، تتوقف عليها ترتيبات لحياتهم القادمة، ومن مفارقات القدر أعطى بالمقابل فرصة لمن لا ينتظرها، حيث مصائب قوم عند قوم فوائد؛ لتأتي حكاية (هروب): مستكملة درب الهروب من الواقع الباهت؛ حيث تشكل الحياة الافتراضية بديلًا عن الحياة الحقيقية، وتحيي بطولات خلبية يعيشها الفرد اليوم، عبر الانترنت والأجهزة الذكية، كصورة عن الحياة المستلبة التي طغت على حياة الناس في عالم العولمة، الحالة التي ما فتئت تتسع وتجلب إلى دوامتها شرائح متزايدة منهم.
أما (لون يمنع الحسد) فينسجها الزلوعي برشاقة ذات طرافة، فالعجز الذي أصاب العنجهية الذكورية الناجمة عن خيبته مع زوجتيه يعالجها بالحبة الزرقاء -الفياغرا- في تضمين بليغ للون الأزرق المؤسطر في المخيال الشعبي ضد الإصابة بالعين والحسد.
في (جدايل نجلا)، امرأة وحيدة وجميلة كيف لها أن تتعايش وسط الذئاب، وتربي أطفالها بمعزل عن العيون الطامعة بلحمها والمستغلة لوحدتها، حيث يخلق الكاتب هنا تماهيًا بين الشوارب والجدائل، من خلال حل رمزي فحواه أن تلغي نجلا أنوثتها لتستطيع الوقوف بوجه ضباع البشر، كرصد للمعاناة البشرية والعجز عن اجتراح حلول جذرية في مجتمع لا يحمي الضعيف فيها.
ولعلنا نستطيع اعتبار (كرسيولوجي) من النصوص المميزة بحق، بسبب معناها العميق، فعاشق الكراسي، من حيث هو فعليًا خبير بنوعية الخشب وأصنافه كهواية توصله إلى مراتب عليا، يصل إلى انزياح بمعنى الفكرة، حيث تتدرج إلى هيام بالمنصب والحظوة الناتجة عنه، والألم الذي يصيبه عند عزله يجسده بالكرسي المعدني الذي يتقدم غير معنيًا بإحساس وهواجس من اعتلوه يومًا.
في (أيقونة للفرح)، الوجوه الفنية الجديدة أيقونات الربح لتجارة النجوم، عند من يستثمر الإطلالة البريئة لوجوههم وجمال الفتوة والشباب، لتأفل شمسهم مع مضي العمر وغروب الشباب، ومصيرها مشافي الاكتئاب عندما ينتهي دورها ويحل من هو أجمل وأفتى محلها، في امتهان إنساني لكينونتها الإنسانية.
في (مرآة ومرآة)، كل كائن يرى نفسه والآخرين بمرآته هو، مرآة ذاته التي يرتضيها أو يتوهمها، ويكتئب عندما يرى نفسه بمرآة الآخرين، حيث تتجلى المقدرة على تكثيف الفكرة بموقف صغير بين سيدتين تتبادلان النظر في المرايا في أمكنة مختلفة.
(عازف الناي) مشهدية جميلة للشراع الذي يسمع عزف الشمس، ويمشي باتجاهها فالعزف ليس صوتًا يُسمع وحسب، إنه مخيال وصورة تتحقق في البال من وحدة الوجود وتناغمه، حيث عزفُ الطبيعة الآسر فاق مقدرة العازف؛ فوقف شاهدًا ومتأملًا على عظمة الجمال الكوني.
قد يحتاج استعراض أغلب النصوص التي تناولها الزلوعي إلى صفحات وصفحات، حيث كانت أشبه بفلاشات شبه بصرية، ينقلها عبر تصوراته التعبيرية ليوميات الحياة وكآباتها وأفكاره التي يبثها في أقاصيص ذات عمق وفكرة، فيها التنويع والرشاقة وعدم التكلف، وبالرغم من أن المجموعة لم تتجاوز ثلاثًا وتسعين صفحة، لكنها كانت غنية بمضمونها لاعتمادها على احتشاد المعنى وكثافة الفكرة ورشاقتها، ولكونها منسجمة مع تقنيات القصة القصيرة التي لا تحتمل استفاضة أو مزيدًا من الإطالة بالشرح أو تفصيلات إيضاحية لما يريد قوله، وقد اعتمد مبدأ الإشارات الدلالية الموحية بالفكرة المبطنة. كل ذلك بأسلوب سهل وسلس ذي انسيابية، فيه من التلقائية والصنعة في آن واحد الشيءُ الكثير.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]دعد ديب