في عشق إسطنبول



ما الذي يُبقيك هنا؟!

سألني صديقٌ؛ كانت إسطنبول محطّة توقُفه، قبل أن يُكمل رحلته إلى أستراليا.. حيث تمّ قُبُولُ لجوئه.

فابتسمتُ له.. ولم أُجب.

قال ونحن في الميترو:

لماذا لا تطلب لجوءًا مثلي.. إلى أيّ دولةٍ غربية؟! لا أشعر بضرورة ذلك. لكنك على أبواب الستين؛ ولا راتب للسوريّ المُهجّر إلى تركيا؛ وتكاد تتدبّرُ عيشك من كتاباتك؛ ابحث عن طمأنينة شيخوختك في بلدٍ يضمنُها ويرعاك.

هززتُ رأسي.. ولم أردّ.

أخذته من المطار إلى أقرب شاطئٍ على البوسفور؛ ثمّ.. إلى “حيّ السليمانية”؛ فإلى.. “سوق أمينونو”، وحين جاع.. أدخلته إلى ساحة خانٍ قديم؛ في زاويته.. مطعم شعبي صغير، طلبتُ فطائر لحمٍ بالجبنة، وصحن سلطة، وطاستين نُحاسيتين مُترعتين بزبدٍ أبيض من لبن “العيران”.

أكل صديقي، كما لو أنه صام دهرًا ليفطر ها هنا على صوت مُؤذّن الجامع الخشبي الصغير في ساحة الخان، ومن مصطبة المطعم، سمعنا عتّالًا تركيًا يُغنّي بشجنٍ شرقي عتيق، بينما يُطقطق الحطب في الفرن القرميدي الصغير.

سألني الصديق عمن بقي في إسطنبول، وعمّن غادرها، بينما نلوبُ في الأزقة المُتفرّعة عن شارع الاستقلال.. قلتُ له:

ذهب كثيرون.. لم يبق من أصدقائنا إلا القليل. عبروا البحر تهريبًا أليس كذلك.. ألم يخشوا من الغرق؟!. ولماذا يخشون! لم يعُد للسوريّ ما يخسرُه.. سوى ذاته.

بعد ساحة (تقسيم) أخذته إلى “كاباتاش”.. رجوعًا إلى شاطئ البوسفور، حيث تغيبُ الشمسُ عن قارّتين معًا.. بينما تعبرُ السفنُ والنوارس ذاك الملح الأزرق؛ يرمي الصيّادون خيوط سنّاراتهم ليصطادوا الشمس كبرتقالةً كبيرة، قبل أن تفلت منهم.. ذاهبةً إلى النوم على سرير الزبد.

سألني صديقي:

كيف تعرف كلّ هذه الأماكن الصغيرة المُنزوية؛ هل تقفّيت أثرها من روايات أورهان باموق؟! حين ذهبتُ الى القاهرة أول مرّة.. لم أسترشد بنجيب محفوظ أيضًا، لأنّي لن أجد تلك الأماكن كما تخيّلتها.. وأنا أقرؤه، الشيءُ ذاتُه حصل لي.. مع إسطنبول ومع أورهان باموق. كيف ذلك؟! قدّم باموق لنا إسطنبول كما عايشها؛ بينما أواصلُ اكتشافها بنفسي.. بلا خارطة سياحية؛ ولا عبر “الغوغل إرث”، بل.. كما أعايشُها أنا؛ وكما تتبدّى لي؛ كأنما أقوم بحلّ لغزٍ مكتوبٍ بريشة طائرٍ.. على ورقةٍ صفراء مثل الخريف.

وفي حيّ “بيشكتاش”.. قال صديقي، وهو يرشف الشاي جالسًا قبالتي على كرسيّ قشٍ صغير:

عرفت لماذا لم تُجبني عن سؤالي؛ كلُّ هذا الجمال هو الذي يُبقيك في إسطنبول. صار لي فيها 4 سنوات، ولم اكتشف سوى رُبع المدينة.

هزّ صديقي رأسه.. فأردفتُ:

لا تمنحُك المُدُنُ والنساء.. كلّ أسرارها دفعةً واحدة.

ابتسم صديقي: يا للنساء.. وما يفعلنهُ بنا!

كذلك تفعل المُدُن.

ثمّ استدركت: ليس كلّها.. بالطبع، حين كنتُ في شانغهاي.. تركتُ كلّ ناطحات سحابها؛ مُنسربًا إلى حيٍّ صينيٍ من الخشب، تكاد الأقمار الصناعية لا تراه بين غابات الإسمنت، كان ذاك الحيّ لُبّ الثمرة؛ وكلُّ ما حولهُ.. قشرتُها الزائلة.

وحين التقطتُ له صورة تذكارية.. ابتسم قائلًا:

صرنا.. مُجرّد صور. أخشى ألّا نلتقي مرّةً ثانية.. لهذا أُوثّقُ لحظتنا معًا.

تنهّد صديقي كما لو أنّه يتألم:

كأننا.. أبناء التيه. وفي التيه.. لا شيء يسندنا سوى الصور؛ حين خرجتُ من دمشق، أخرجتُ معي ملفاتٍ لا تُحصى من الصور، كأنّي أخشى على الأماكن التي فيها، وعلى بُرهة الحياة فيها.. من القصف.

قبل أن يُودّعني عائدًا إلى المطار، قال:

يقولون بأنّ “ملبُورن” التي سأذهب إليها لاجئًا.. مدينة جميلة، أخشى ألّا أراها كذلك.. بعد أن رأيتُ إسطنبول.

ضحكتُ وأنا أعانقه:

طوّل بالك.. لم تر من إسطنبول سوى رفّة أهدابها. لكنّي وقعتُ في عشقها على الفور، وسأظلُّ أحسُدُك عليها. ثمّة شيءٌ.. لن تراهُ في “ملبورن” أو في أيّ عاصمةٍ غربيّة. ما هو؟! هاهنا في إسطنبول.. شيءٌ من حلب ومن شام شريف، ولهذا السبب أيضًا.. أعشقها.


المصدر
نجم الدين سمان