اعتلال الثقافة

23 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
7 minutes

عبارة “كنا عايشين” كثيرًا ما نسمعها تتردد في غمز ولمز واضحيْن، لما حصل في سورية، وينطلق أصحابها من الواقع الصعب القائم، لا من تتالي الأحداث التي أدت إليه، ودونما تحديد لمسؤولية ذلك، وعلى من تقع بالضبط! والغاية طبعًا خلط الأوراق والقول في النهاية:

“إننا لم نكن بحاجة إلى كلِّ ما جرى”. لست في وارد الدخول في مماحكة سياسة، الآن، ولكني، بداية أود الإشارة إلى أنَّ الواقع القائم اليوم لا علاقة له البتة بحالات الاحتجاج الشعبي التي ملأت شوارع المدن السورية، كحمص وحماة ودرعا ودير الزور وغيرها.. بل علاقته بالقسوة الظالمة التي ووجهت بها تلك الحالات، وتحديدًا بمن أمر بإطلاق الرصاص الحي على تلك التجمعات السورية التي جاءت في معظمها من جيل الشباب اليائس من مستقبله، فخرج يبحث عن فرجة ما، بعد أن أعيته الطرق التقليدية بطَرْقِ أبواب المسؤولين عبر المتاح، ضمن الأطر القائمة آنذاك.

إن ذلك الرد الظالم تسبب بقتل مئات الضحايا البريئة؛ ما فجَّر الأوضاع الهشة أصلًا، وفتح الباب واسعًا أمام سعير جهنم الذي أتت به أمم الأرض الباحثة لها عن غايات ومصالح محددتين، في بلد أريد له أن يكون ساحة صراع وتصفية حسابات متوحشة.

الحقيقة لا أريد الرد على عبارة: “كنا عايشين”، بقدر ما أبغي الإشارة إلى الجانب الثقافي من حياتنا، الجانب الذي يعد بحق مرآة ذلك الواقع الذي كان يبرز عبر ما يسمّى بأنشطة المؤسسات الثقافية التي غالبًا ما كانت تأتي معها بالحزن، إن لم أقل الاكتئاب، وسآتي بمثال لعلَّه يقول الكثير ويغني عن الكثير أيضًا..!

في الأمسية التي أحياها الشاعر عبد القادر الحصني، ورعاها فرع اتحاد الكتاب العرب بحلب، قبيل العام 2011، متعاونًا بذلك مع مديرية الثقافة، لم يتجاوز عدد الحضور اثني عشر شخصًا، من بينهم سبعة ينتمون إلى الشعر والشعراء، واثنان أو ثلاثة من أعضاء الاتحاد، وأستاذ جامعي واحد هو الدكتور فايز الداية، وشخص آخر بعيد عن الوسط الأدبي. وإذا كانت تلك الحالة قد أخجلتنا، نحن الحاضرين المتابعين نسبيًا للشأن الثقافي، وعبَّر عنها في محاولة اعتذاره الخجولة أمين فرع اتحاد الكتاب الذي قدّم الأمسية؛ ما دفع أحد الحاضرين إلى السؤال عن غياب جيل الشباب غامزًا من قناة الحضور الذين كانوا جميعًا ذوي شعور بيض، وتساءل عن ثلاثة الآلاف طالب الذين يعمرون كلية الآداب؛ فصحح له الدكتور فايز الداية الأستاذ في الكلية نفسها:

إنهم ثلاثون ألف طالب، بل هم ثلاثة وثلاثون ألفًا بالضبط. وقد آلم الحوار الشاعر الحصني الذي كان على وشك البدء؛ إذ ارتسم ذلك على وجهه، وبدا مقروءًا في عينيه، ثم مترجمًا على لسانه الذي قال منفعلًا:

“إن ثمة اعتلالًا في واقعنا الثقافي، وليس غريبًا أن يكون كذلك، ونحن أمة تمعن في اغتيال مثقفيها ومبدعيها، وأشار إلى اغتيال حسين مروّة، ومهدي عامل، وفرج فودة، وكذلك إلى محاولة اغتيال نجيب محفوظ!”.

وتابع بعدئذ أمسيته، فألقى قصيدتين ماتعتين، أهداهما إلى كل من الشاعرين الراحلين: (نزار قباني، ومحمود درويش) ولست هنا في مجال امتداح الشاعر كواحد من شعراء الصف الأول في سورية، وأحد الشعراء العرب الذين يُعْتَدُّ بشاعريتهم، وبثقافتهم العميقة الواسعة، وبدفء فيضهم الإنساني، وباحترامهم لأنفسهم، في ما يقدمونه من إبداع، ولكن لبيان سوء ما كنا عليه، ودلالاته.

المشكلة، في جوهرها -في ما أعتقد أنا وغيري- تكمن في نظرة السياسي إلى مسألة الثقافة من أساسها، وأعتقد أنّ نظرة السياسي عندنا تكمن في أنّ الثقافة حاجة كمالية لا أكثر، شأنها بذلك شأن الحرية الأوسع والأعمق التي كان المواطن السوري يحلم بها ولم يزل! ثم أليست الثقافة والحرية، في نموِّهما والمجتمع، صنوان.

أعود إلى الشاعر الحصني الذي أشار، في هذا الخصوص، إلى أنّ مؤسسة ثقافية سورية دعته لإقامة أمسية شعرية، وقبيل الموعد طلبت منه مديرة تلك المؤسسة اسمَه واسم أبيه واسم أمه (بالطبع هذا الأمر يحصل مع جميع المثقفين المسموح لهم أصلًا بإقامة الندوات). ولم يقل ما الذي حصل معه بعد ذلك، ربما رفض الأمسية من أصلها، لكنّه أعطى مثالين جريا في بلاد غير بلادنا، (ربما لا يمتلك شعبها ما يمتلكه شعبنا من ماض زاهر وحضارة تليدة لا زلنا نفاخر الأمم، ونتشوّف عليهم بهما). ذلك المثال هو نشاط ثقافي، أقيم في ذلك البلد. وكان شاعرنا حاضرًا، وقد لاحظ أنّ منظم النشاط قلق من أمر يجهله.. فسأله عما يقلقه! فقال له:

إنني انتظر تصنيف النشاط، فثمة لجان متخصصة لهذا الغرض.. وحين ظهرت النتيجة، وفاز النشاط بالمرتبة الثانية، فرح الرجل فرحًا عظيمًا.

أما المثال الثاني فإنّ أحدهم، وهو مغترب عربي، أراد أن يقيم مهرجانًا للمتنبي شاعر بلاده العظيم، فكان أن أرسل إلى القائمين على الشؤون الثقافية في تلك البلاد كتابًا، ليجيزوا له ذلك المهرجان. وحين تلقَّى هؤلاء الكتاب، استغربوا الأمر ولم يفهموا المطلوب بالضبط، فأحالوه إلى محام لدراسته قانونيًا، وكان أن تكلّف صاحبنا بمبلغ كبير.. وأبلغوه، بعد أن نظر المحامي في المسألة، أنّ طلبه لا يحتاج إلى أي موافقة، أما إذا أراد دعمًا ما لنشاطه، فعليه الاتصال بمؤسسة مدنية، أرشدوه إليها، فعمل صاحبنا وفق نصيحتهم، وكان أن حصل على مبلغ جيّد، كفاه أجر المحامي، وتكاليف المهرجان كلّه!

ما أردتُ قوله من كل ما ذكرت، واستنادًا إلى الأمر الثقافي تحديدًا الذي يُعدّ بحقٍّ مرآةَ المجتمع؛ إذ يعكس واقعه وطموحاته وينتقد أخطاء القيمين عليه؛ أننا، في الحقيقة، لم نكن “عايشين” قط، ولا في أدنى مستويات العيش! لم نكن “عايشين” حتى في الحصول على رغيف خبز نظيف دون هدر شيء من كرامتنا. ولو كنا حقيقة “عايشين”؛ لكُنَّا تعاملنا بروحية أفضل مع مرآة حياتنا ومجتمعنا، ولكُنّا أعلَينا من شأن تلك المرآة التي تجعلنا نرى أنفسنا، وواقعنا بصدق، تلمسًا منا لمستقبل أفضل، وأجمل! فحين تعتلُّ الثقافة يعتلُّ المجتمع، أما العكس؛ فيمنح الصحة والحيوية والنمو والارتقاء.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

محمود الوهب