حرية التعبير ليست جريمة ولا مؤامرة



ما يزال ملف المعتقلين السياسيين في سورية مغلقًا ومعلقًا، لم يُحرز أي تقدم ملموس؛ فما يزال النظام السوري مصرًا على إنكار إخفائه القسري لمئات الألوف من البشر، وما يزال مصممًا على عدم السماح للمراقبين الدوليين بالدخول إلى مراكز الاحتجاز التي يديرها لتقصي الحقيقة، بالرغم من كل الشهادات الحية، والصور المسربة، وتقارير الهيئات الحقوقية التي تثبت ممارسته للاعتقال التعسفي والتعذيب حتى الموت، كسياسة ممنهجة، منذ بداية الثورة لإرهاب المدنيين، وإسكات كل صوت معارض طالب بالحرية والكرامة.

تؤكد التقارير التي أصدرتها (الشبكة السورية لحقوق الإنسان)، خلال آب/ أغسطس الماضي، اعتقالَ نحو 215 ألف شخص منذ عام 2011، بينهم 4252 شخصًا اعتُقلوا خلال العام الحالي، قُتل منهم 161 شخصًا تحت التعذيب، أما في آب/ أغسطس وحده، فقد جرت 549 حالة اعتقال تعسفي، وتمت تصفية 32 شخصًا منهم، ويتحمل النظام السوري -بمختلف الأجهزة التابعة له من جيش وأمن وميليشيات- المسؤوليةَ عن 99 بالمئة من مجموع الاعتقالات، منذ قيام الثورة، و99.9 بالمئة من مجموع التصفيات، بينما توضح أرقام آب/ أغسطس أن النظام السوري كان يعتقل ما يعادل وسطيًا نحو 18 شخصًا في اليوم، ويقتل واحدًا منهم بالتعذيب، في بلد لم يبقَ من سكانه سوى النصف؛ بسبب “سياسة التجانس” التي يتبعها، والتي تقوم على مزيج متكامل من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، لم تستطع مفاوضات السلام، ولا اتفاقات خفض التصعيد، أن تضع لها حدًا.

تقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان تتقاطع مع تقارير الهيئات الحقوقية الدولية الموثوق بها كـ (منظمة العفو الدولية) و(هيومن رايتس ووتش) وإن اختلفت الأرقام، فجميعها يؤكد ما لم يعد خافيًا على أحد، من أن عمليات الاعتقال التي تنفذها الأجهزة التابعة لنظام الأسد تخالف دستور البلد والمواثيق الدولية، وتتم بعيدًا عن معرفة القضاء، ومن دون أذون اعتقال. ببساطة يجري اقتحام المنازل ليلًا، وسحب المطلوبين من أسرتهم، أو اختطافهم نهارًا من على المفارز والحواجز، وبمجرد أن يُعتقل السوري يُحرَم من حقه في توكيل محامٍ أو الاتصال بذويه. يتحول إلى رقم، ويختفي أثره في مراكز الاحتجاز إلى أجل غير مسمى، وحتى إذا حظي بمحاكمة صورية؛ فهذا لا يضمن له الخروج من المعتقل، عند انتهاء محكوميته، كحال المعتقلة طلّ الملوحي.

مع هذه الإجراءات الخارجة عن القانون؛ تختفي كل الأدلة التي تثبت تورط النظام في عمليات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، لولا شهادات الناجين من المعتقل، وجميعها تؤكد أن مراكز الاحتجاز في سورية أضحت مكانًا لا يضمن الحد الأدنى من شروط البقاء على قيد الحياة، وفيها تُمارس جميع أشكال الإذلال والتعذيب والتجويع والقتل.

كلنا بات يعرف أن المداهمات والاعتقالات التي يمارسها النظام، لا تستهدف المعارضين السياسيين أو المسلحين وحدهم، بل تطال ذويهم من الأطفال والنساء وكبار السن، ممن يؤخذون كرهائن، وتطال أيضًا أولئك الناشطين السلميين في مجالات الإعلام وحقوق الإنسان والإغاثة، وهناك اعتقالات عشوائية بحق مدنيين لا علاقة لهم بشيء، يجري احتجازهم، من أجل عمليات تبادل الأسرى أو ابتزاز أهاليهم، وكل هؤلاء يُنظر إليهم على أنهم إرهابيون وخونة ومتآمرون يستحقون أقسى أشكال العقاب، وعلى هذا المنوال اختفى المسرحي زكي كورديللو وابنه مهيار، والمحاميان خليل معتوق وفائق المير، والمعارض عبد العزيز الخير، والشاعر ناصر بندق.

حين خرج الشعب السوري إلى التظاهر السلمي، كان يمارس حقه في حرية التعبير الذي تكفله المادة 19 من “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، والتي تؤكد أن “لكل إنسان الحق في حرية التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها”. هذا الحق الذي انتهكه حزب البعث، منذ أن استولى على السلطة في سورية، وفرض حالة الطوارئ عام 1963.

انتهاك الحق في حرية التعبير لا يقتصر على تداول المعلومات والمعارف، إنما يشكل مدخلًا أساسًا لانتهاك جميع الحريات والحقوق المدنية الأخرى، بدءًا من حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، مرورًا بالمشاركة في الشأن العام والتعبير العلني عن الآراء والتطلعات السياسية والاقتصادية والثقافية، وصولًا إلى تنظيم التظاهرات والإضرابات والاعتصامات، أو ما يُعرف بممارسة الحق في الاحتجاج السلمي، وهو حق لا يتطلب موافقة أجهزة الدولة، بقدر ما يتطلب حمايتها في العرف الدولي، وعلى هذا الأساس، كانت أولى المطالب التي نادى بها المتظاهرون رفعَ حالة الطوارئ، ومحاسبة المنتهكين لحقوق الشعب السوري وكرامته، وكانت ثاني وقفات الاحتجاج أمام القصر العدلي، من أجل الإفراج عن معتقلي الضمير.

لم يرتكب المحتجون السلميين أي جُرم، لكن النظام كان مجرمًا في أسلوب قمعهم والتنكيل بهم، وما يزال فالتًا من العقاب، مع أن انتهاكاته تجاوزت الاعتقال والتعذيب إلى قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة، وتسميمهم بالأسلحة الكيماوية، وتهجيرهم بالملايين من بلدهم بذريعة أنهم إرهابيون، ولم تردعه المناشدات لوقف جرائمه، ولا التصريحات المنددة بها، ولا حملات الإدانة الواسعة التي أطلقتها المنظمات العالمية، بل زادت من طغيانه؛ وهذا يجعل بقاءَ نظام الأسد خرقًا صريحًا لكل الحريات والحقوق، وعارًا سيُكتب على جبين الإنسانية، إن لم يحزم المجتمع الدولي الأمرَ باتجاه رحيله ومحاكمته.




المصدر
تهامة الجندي