هالة فيصل: سيرة لا نهائية للضوء



في اللحظة ذاتها، وأنتَ تتلقى الانعكاسات اللونية من اللوحة؛ ستكتشفُ أنه لا يوجد هناك ما تتأمله، ثمة فقط ما تغرق فيه، وأن ما أثار الرعشة في نخاعكَ الشوكيّ هو هذا: التظافر مع الحلم والسقوط فيه.

تغمض عينيكَ، محاولًا الخروج من سطوة الحلم، أو على الأقل، إيقاف تدفقه الراعش -ولو مؤقتًا- لضبط التركيب الضوئي في جسدكَ وأخذ النفَس. تعود لتفتحَ عينيكَ على وجه هالة فيصل والأشعة السوداء الهاطلة عليه؛ فتُغمر بالحلم من جديد. كل لوحة حلم، وكل ضربة فرشاة انفتاح شِعريّ، وحيث طافت عيناكَ هناك وجهٌ واحد هو وجهها بأجسادهِ المتعددة، معبرةً بذلك عن ألم جمعي لا يعنيها وحدها؛ بل يعني النساء جميعًا، مؤكدةً، أن الكل معنيٌّ بهذا الألم الضوئيّ، بهذا الاحتفال اللوني، بهذه المعاناة التي تخترق المشهد في عمقه، وأنها ليست مجرد خالقة خارجية تبتسم، بينما تضع لمساتها الأخيرة على عالم أنجزته توًا، بل خالقة تولدُ باستمرار فوق القماش المصبوغ بروائح أولى، في اللوحة وعمقها الحي، وليست خالقة تقف على هامش اللون. مشكلةً بذاتها النقطة المركزية في أعمالها وأحلامها المشغولة، معبرةً في تعدديتها عن تحولاتها الأكثر جذرية التي تتنازعُ بيئتَها الفكرية والمزاجية.

هذه الخالقة في بحثها الملعون عن التحقق، واختراقها الذاتيّ لذاتها، وهطولها اللوحيّ، لا تحاول أن تقول. إنها تمسكُ الرائي من عينيه فقط: هذه أنا، وهكذا أمارسُ أحلامي، ليس لديَّ أجوبة، ليس لديَّ أي تفسير لأقدمه لكَ.

ذلك أن اللوحة هي علاقة بين لا وعيين: لا وعييَ ولا وعيكَ، وما تنجبه هذه العلاقة من اختراق متناغم لهذين اللا وعيين، وأن الفن ليس جوابًا مطلقًا، ليس أطروحة، بل هو سؤالٌ مستدام، ورغبة مفتوحة في تشكيل العالم، هو الإمساك بلحظة ضوئية منزلقة إلى الداخل، الفن ليس فكرة، هو حلم. غير أن هذه اللوحات/ الأحلام، ليست وردية دائمًا، إنها أقربُ ما تكون إلى أحلام شتوية، بكل ما يحمله الشتاء من تفاوت ضوئي، أمطار عاشقة، رغبات غائمة، حزن ووعد.

هالة: هارموني الضوء

من أين ينبعُ النور في اللوحة؟ من أي طعنةٍ يسيل الضوء؟ ما طعمُ هذا اللون؟ ماذا هناك….؟ سلمٌ خشبيٌّ مسنودٌ على غيمة، وردٌ ينتصب مثل حلمة، هاجسٌ يقسم اللوحة إلى عمقين، عمق يغرقُ في الهواء، وعمق يهجرُ الإطار، الفضاء يضيق بالتشكيل. أرجلٌ غارقةٌ في ماء بدئي، أسماكٌ لها شكلُ عيون، عيون مفتوحة على أبدٍ بحجم قلب، نساءٌ يتوالدنَ ذاتيًا، أرضٌ حمراء، وحمراء دائمًا، طيورٌ خرافية تلتهمُ الحلمات، عراءٌ يرتدي ذاته، مولعًا بذاتهِ، حافرًا صوته على الأرض، الأرض ذاتها مجبولة بالضوء، ضوءٌ يعبرُ الستائرَ اللامرئية حيث اللامرئيّ ذاته في اللوحة يحدقُ فينا من الداخل.. نساء.. نساء.. نساء وامرأة حية كأسطورة، تربي طيورها كنبوءات قديمة، طيور بلا سابقِ عهد تنمو كأوراق على الريح. فانوسٌ معلقٌ من ظلهِ ينيرُ كتابًا بلا كلمات، كتابٌ في يدِ امرأة تقرأ ذاتها، وتسيل الكلمة على جسدها وتزهر في لبّ الوردة. هناكَ مصدرٌ وحيدٌ للضوء في اللوحة: الجسد بكلّ هالاتهِ.

هالة: العمقُ المعرفيّ

من أين للوحة كلّ هذه الطاقة العاطفية؟ الجمال وحدهُ لا يكفي. النصاعة اللونية والوضوح الغامض للفكرة المعبَّر عنها، العري المحتفى به، التضاد المشغول عليه بعناية مهمَلة، الغنائية في اختيار العناوين، الشِعر المبذور فوق القماش، اللغة المشتركة بين بصرين: بصر الرائي ورؤيا هالة فيصل. كل هذا لا يكفي ما لم يكن مخفورًا بآليات كوّنت العمق المعرفي للفنانة: التعددية، طرح قضية المرأة كموضوع تشكيلي والحرية.

هذا ما يحرك الطاقة من اللوحة الهاليّة باتجاه الرائي، ويجعل من اللوحة ذاتها مكنة شعورية، تستمد حريتها الحركية من خلال المزج بين التشخيص والتعبير وانتهاج الطزاجة اللونية، واشتغالها على الرفض المعلَن للتعريف السطحيّ للفن، والذي يجعل من الفن مرآة للواقع، مدركةً بشكل أكثر عمقًا، بأن ما تقوم به ليس تمرئيًا، وأن الدلالة المرآتية ما هي إلا تكرار المشهد خاليًا من العمق، مؤكدةً، من خلال لوحاتها، أن الفن هو الواقع مرفوضًا، ومخروجًا عليه.

هالة: تأويل اللوحة

من الرؤيا بمكان، أن نبحثَ عن اللامرئيّ في لوحة هالة فيصل، عمّا تريد أن تقولَهُ لوحتُها بلا صوت، عن النقطة العمياء التي تنير المشهد كاملًا، متسائلين إن كانت الفنانة قد مارستْ القطع غير التام لعلاقتها مع الطبيعة الصامتة؛ إذ تفاجئنا مخيلتها بعودات سريعة إلى الصمت -وهي التي رغبتْ في معظم أعمالها في أن تخرج عليه- وأن تتحرر منه، باحثين في الوقت نفسه عن الوظيفة التخييلية لعناصر اللوحة، عن الدلالة التجريبية للرموز، عن مغزى الزمن اللوحيّ، وعن المادة الخام للتعبير إن كانت هذه المادة الأساسية هي هالة ذاتها، حياتها، حياة الشارع، حياة النساء سجينات الجسد في هذا الشرق، المنظور إليهن كآلات جسدية، الحياة السرية والعلنية للمشاعر النسوية، والألم الخفي والمعلَن أيضًا، في حياة النساء، الأساطير الحديثة، التاريخ، الأشياء الصغيرة والحب.

كيف نؤول اللوحة في ظل هذا القطع غير المنجَز مع الواقع، وإعادة تخييله حداثيًا في هذا الألم المسكوب فوق القماش، في هذه المعاناة، ونحن نعرف أن المحرك الأساس، في فن هالة فيصل، هو هذا الحزن الشفيف غير المعترف به، المتواري خلف العراء. في رؤيا تستوعب النماذج البصرية التاريخية والأسطورية ودمجها حداثيًا -أيضًا- في سيرة اللون وإعادة تشكيلها وفق رؤيا تجاوزية للمنجز البصري محليًا وعالميًا؟

نحن نعي أن “علاقة اللغة بالرسم علاقة لامتناهية، علاقة مفتوحة، إذ لا يمكن أن يختزل أحدهما الآخر”، كما يقول فوكو. لكن لا يمكننا إلا أن نسائل اللون والفرشاة والقماش واليد والمخيلة المنتجة، عما تريد أن تقوله.

تقول هالة: “الجسد شيء خلّاق. لكننا في منطقتنا العربية تعلمنا أن نلغيه”، فحضر في معظم أعمالها. وما العري في هذه الأعمال إلا تعبير آخر عما يكتنف هذا الجسد من وجع. وتقول أيضًا:

“حولتُ المرأة لتكون شبيهة بأسطورة عبر مزيج من الروحانيات والألوان الجدارية”.

وماذا أيضًا…

في لوحة هالة فيصل، هناك دائمًا ما يُؤول، وهذا يعني تعددية القراءة، مثلها مثل أي نص مفتوح. فمشهد الهدوء المفصول، في لوحتها (ما بعد ممارسة الحب)، لا يشبه شيئًا أكثر من المشهد التالي للهبوط من الجنة. هل هو كذلك؟ وتلك النظرة الغامضة نصف المسدلة، الماكرة، أو ربما الخجولة، من امرأة تداعبها يدٌ غارقة غير مرئية، لرجل بثياب ضابط، في لوحة (المرأة والضابط)، توحي بعلاقة ملتبسة بين السلطة والفن. وتترك للتضاد أن يقود المشهد. أهُما بحاجة إلى بعضهما الآخر، أم المرأة تحتاج حقيقة إلى من يحميها؟ فالمرأة ترتدي حذاء السلطة فقط. والسلطة تداعب ذاتها بيد، وباليد الأخرى تداعب الفن. ما يجعل هذا الالتباس محيرًا هو الكلمات المنقوشة على ضفاف اللوحة: عشق، حب، اللهفة، انتظار.

وفي لوحة (ولادة) نجد التوالد الذاتي للمرأة الفنانة، وكأنها تتناسل من ذاتها كأسطورة، وكأنه دليل على الاستمرارية. وذلك ما تقوله لوحة أخرى هي (الملائكة تبشر العذراء بالولادة بلا دنس)، مستبدلةً كلمة: حمل في نص الأيقونة الأصلي، بكلمة: ولادة، في التباس معنوي، وكأن الفن هو هذه الولادة الأصيلة المستمرة من الذات.

وفي (المرأة سجينة الثوب الأحمر)، نجد المرأة وقد أعارت حذاءها الأحمر لقدمين متسلقتين لشقوق في الجدار، وتستمر الشقوق بحضورها في الفراغ، محاولة الوصول إلى نافذة مسوّرة، لكن لا هي مغلقة ولا مفتوحة. هل هي أقدام الحلم، حلمها؟ وكأنها سجينة فكرة تحبها وترغب بمغادرتها، ولا تفعل شيئًا سوى الحلم بالمغادرة.

إن ما فعلتهُ الفنانة هالة فيصل في شغلها، هو محاولة إيجاد تناغم هادئ مع الزمن، من دون صخب أو صراخ أو ضجيج، وليست فنانة العري والجنس كما فُهِمت خطأً. إنها من العمق، بحيث أحالت كل هذا المعنى العاري لجسد يرفض ويخبئ حزنه مؤونة حياة كاملة. كثيرةٌ هي الدلالات في لوحة هالة فيصل، الرموز، الأساطير، التعويذات، الكلمات، الهوامش واللوحات المعلَّقة في اللوحات، كل ذلك يتناغم في لوحة مكونة هارموني من التعبير المصبوغ، يتركنا عراة غرقى في هذا الحلم/ اللوحة.




المصدر
معاذ اللحام