‘الجزائري أحمد دلباني: ظاهرة “الانغلاق الهوياتي”’
24 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
أختلف مع أطروحات أدونيس حول “الإسلام والعنف”
نناقش في هذا الحوار، مع الباحث والكاتب الجزائري الأستاذ أحمد دلباني، أبرز ما جاء في آخر مؤلفاته الفكرية، الموسوم بـ (مفاتيح طروادة/ كتابات في أزمنة الهويات المغلقة)، الصادر مؤخرًا عن (دار التكوين) في العاصمة السورية دمشق، والذي احتوى بين دفتيه مجموعة من النصوص والمقالات، تناقش مختلف قضايا الراهن الفكري والسياسي، وفي مقدمتها مسألة “الهويات المنغلقة” التي يشبّهها بالمدينة اليونانية الشهيرة، التي تقول (الإلياذة) الهوميروسية إنها بقيت محاصرة إلى أن جاءت فكرة الحصان الخشبي الذي “فجّرها” من الداخل. كما يتطرق ضيفنا إلى أزمنة الهويات وانفجار الأصوليات الدينية. ملامسًا في هذا الكتاب، بأسلحة فلسفية حضارية تمكن منها، أكثر الأسئلة الراهنة إشكاليةً، وعلى رأسها الإرهاب والتطرف والإسلاموفوبيا.
– بداية نسأل عن أبرز الخلاصات التي توصلت إليها في كتابك الأخير (مفاتيح طروادة/ كتابات في أزمنة الهويات المغلقة)، والذي تناقش فيه بشكل أساس ظاهرة “إنغلاق الهويات“ وأزماتها المربكة والمرتبكة.
= إنَّ ظاهرة “الانغلاق الهوياتي” تمثل -برأيي- إحدى أبرز مظاهر اللحظة التاريخية التي نعيشُ، وإحدى علامات فشل الحلم الإنسانوي الكبير الذي بشَّرت به الأيديولوجيات المختلفة، وهي تجعل من التاريخ مطهرًا يقودُ إلى الخلاص الدنيوي.
لقد لاحظتُ –عبر مواد كتابي المختلفة– كيف أنَّ الهوية أصبحت تمثل طوقَ النجاة للذات الخائبة، فردية كانت أو جماعية؛ وهذا ما جعلني أطرحُ الأسئلة حول هذه الظاهرة التي تميّز مرحلتنا المُلتهبة بصراعاتها وعنفها ومخاوفها.
من هنا اعتقادي أنَّ الشيءَ البادي للعيان هو ارتباط الحديث عن الهوية بأزمةٍ مع العالم الذي لم يعُد يَعِدُ بالكثير وغرق، من جديدٍ، في السديم. يرتبط الحديثُ عن الهوية عمومًا بالبحث عن بيتٍ بديل للتاريخ، وقد أصبح منفى، وكفَّ عن أن يكونَ وعدًا بالتقدم والانفتاح وغزو المُستقبل.
هذا ما يُفسّرُ ارتباط النزوع الهوياتي بالأصوليات المُختلفة والتطرف والعنف. كأنَّ هاجس الهوية يُضمرُ نوستالجيا لفراديسَ مفقودةٍ، يحن إليها البشرُ؛ كلما أضناهم السقوط غير المُوفَّق في التاريخ.
من هنا، ركزتُ في كتابي على ضرورة عدم التسرّع في تناول هذه الظواهر العولمية، باعتبارها نتاجًا لثقافاتٍ بعينها أو لدين بعينه. ليست هناك ثقافة واحدة في العالم، يمكنها أن تظل بمنأى عن السقوط في التطرف والأصولية والعنصرية بصورةٍ دائمة وأبدية. هذا أمرٌ مؤكد.
كل ثقافةٍ تقومُ على هوية ترسمُ، جيّدًا، الحدودَ بين الذات والآخر وأنماط التراتب بينهما. ويبقى على التاريخ -بالطبع- أن يُطلقَ مارد هذا التمايز، من خلال الصراع الذي يلبس أقنعة مختلفة تبرّرُ الهيمنة على الآخر المُختلف أو سحقه حسب الحال. والتاريخُ يسند جيدًا ما نذهب إليه. إنَّ للسقوط في الانكماش الهوياتي ونبذ الآخر والنزعة الطهرانية الشوفينية أسبابًا تتجاوز –بكل تأكيد– ما يركز عليه أنصارُ النزعة الثقافوية التي لا تنظر إلا إلى الجزء الظاهر من الجبل الجليدي، انطلاقًا من اعتبار التاريخ نتاجًا للنص أو لأسبابٍ أولى مُتعالية، تتجاوز السياق التاريخي المُعقد لولادة أشكال العنف والتطرف في تمظهراتها الحالية. هذا يعني أنَّ هناك مُشكلة تتعلقُ بالتأويل والفهم لدى الكثير من المُتابعين للشأن المُتعلق بالإرهاب مثلًا. خذ مثلًا عن ذلك بعض مفكري اليمين الفرنسي الحالي، وهم يغدقون على الناس بـ “تحليلاتهم” ويزرعون الخوف من الآخر ومن الإسلام، بصورةٍ تنم عن جهل كبير بما يحدث، وتُفصحُ عن هرولةٍ عجيبة نحو البحث عن الحدود الثقافية والحضارية الصافية، على عكس ما ظلت تُبشر به الأنوار الكونية في عهود عنفوانها، يوم كانت تفتحُ العالم وتخضعه بالاستعمار.
خذ –إن شئت أيضًا- مثال أدونيس في مُؤلفه (الإسلام والعنف)، حيث يحاول أن يُبين أنَّ الرؤية الدينية الإسلامية تشبه “صندوق باندورا” الذي خرجت منه كل شرور العالم.
هذه النظرة الثقافوية غير التاريخية أختلف معها قليلًا؛ لأنني لا أستطيعُ أن أهمل السياقات المعقدة لمنشأ الظواهر المختلفة، وفي طليعتها انفجار العنف. وفي اعتقادي لن تتحرَّرَ نارُ العنف الكامنة، ما لم يتم ضغط اللحظة التاريخية على الزناد.
– كيف تقرأ تداعيات ظاهرة “إنغلاق الهويات”، في ظل تمدد الاستبداد الديني المتحالف مع الاستبداد السياسي، راهنًا ومستقبلًا، على مجتمعاتنا العربية، وبالتالي على حياة الإنسان العربي؟
= الأصولية -عندنا- في عمومها لا تخرجُ عن الدين. فليس لدينا في عالمنا العربيّ أصولياتٌ أخرى قوية وفاعلة أو ذات أثر يُعتبر. ولكنَّ الأصولية الدينية نفسها ليست “عودة للدين” في صفائه الأول، كما يزعمُ من يقول بذلك، وإنما هي مُؤشرٌ بالغ الدلالة على انتصار الأبدية، باعتبارها ملاذًا من خيبة التاريخ وفشل مُجتمعاتنا في الانتقال إلى التحديث الإيجابي الذي يقطعُ بصورةٍ هادئة مع البنية التقليدية الرًّاسخة للمُجتمع والفكر.
إنَّ هذه الخيبات المتكررة والفشل في مجابهة التحديات المطروحة على مجتمعاتنا بوّأت الماضي مكانًا عليًا، ومنحت الهوية بريقًا غير معهود، كما عززت من مناعة المجتمع الأبوي الذكوري المُنتقم من حداثة عرجاء، لم تفلح في تفكيك بنية العلاقات القديمة القائمة على الإخضاع، وعلى طمس الفرد ومجمل فاعلياته الإبداعية.
ولكنَّ المشكلة لا تكمن هنا فحسب، وإنما في تجرجر السياسة العربية وراء تفاقم الأصولية الدينية، من خلال تبني خطابها ومغازلتها واللعب على ميدانها، بحثًا عن شرعية مُتآكلة نخرتها التجاربُ التنموية والتحديثية الفاشلة، كما أسلفت.
هذا ما جعل من الديني والسياسي تنينًا برأسين يتربصُ –منذ مدةٍ- بالعربي المُسافر إلى “إلدورادو” الحرية والكرامة والعدالة والمواطنة الكاملة، كما هو معروف. بل أراني أذهبُ أبعدَ من ذلك في النظر إلى هذه الظاهرة: أعني ظاهرة الاستبداد العربي. هي في اعتقادي ليست نتاجًا للدين بالمعنى الحصري، ولا لأهواء المُستبدين كما يُشاع، وإنما تجدُ جذورها في البنية العامة للمُجتمع العربي الباحث دومًا عن المُخلص.
لقد لاحظتُ أنَّ المُستبدَ العربيَّ يحظى بشرعية ترتبط في العمق بالزمن الثقافيّ الذي لم يتخلص، بعدُ، من الأحلام الخلاصية المرتبطة بزمن البطولات الأسطوري الذي يصنعُ أبهة الحياة، وينتشلها من التفاهة والانسحاق واللامعنى؛ كما يرتبط بالزمن السوسيولوجي الأبوي/ الذكوري، لا بالزمن الديمقراطي الذي انبثقت معه، لاحقًا، النزعاتُ الفردية الحديثة. إنَّ السحر الذي مارسته الأحادية والاستبدادُ العربي مع نخبنا السياسية، منذ منتصف القرن العشرين، يكشفُ -في العمق- عن تعثر ميلاد الفرد العربي الحر سوسيولوجيا والكوجيتو العربي معرفيًا وثقافيًا، لصالح دوام الأب العلماني الجديد الذي خلف الأب الرمزي التقليدي المُتواري وراء الصخب الإيديولوجي. وهكذا فالأمرُ واحدٌ أركيولوجيًا: دوام الوعي الخلاصي التقليدي، وشروط امتداد شرعية الوصاية.
– كيف يمكننا معالجة صعود وانتشار “الإسلاموفوبيا” في الغرب الأوروبيّ، بعد وقوع سلسلة من العمليات الإرهابية في العامين الماضيين، نفذها شباب مسلمون، عُرفوا بـ “الذئاب المنفردة”؟ وإلى أي مدى يتحمل الفكر الغربي مسؤولية ما حدث، وما قد يحدث مسقبلًا؟ وما هو السبيل الواقعي للحد من اتساع الفجوة بين الأوروبيين والأقليات المسلمة في البلدان الغربية؟
= لا يُمكنُ أبدًا أن تكونَ الصورة التي يُكوِّنها العالمُ الغربي-الأوروبي، عن الإنسان العربي- المُسلم، إلا نتاجًا لمخيال جبّار ينهل من ذاكرة الصِّراع الماضي على احتكار رأس المال الرمزي، للخلاص في حوض البحر المُتوسِّط من جهةٍ أولى، واحتكار مفهوم التاريخ، من جهةٍ ثانية، باعتباره مسيرة ظافرة نحو التقدم وتحرر العقل وانعتاق الإنسان، تقودها أوروبا منذ “عصر الأنوار”.
وهنا تقفز إلى الذهن بسرعةٍ ذكرى الحروب الصّليبية والاستعمار الحديث، وصولًا إلى أشكال الهيمنة الراهنة على العالم العربي–الإسلامي. إن العربي-المُسلم ظل يمثل دائمًا ذلك “الآخر” الذي يحمل إرث المجابهة التنافسية مع الغرب. ولكنّ هذا، طبعًا، لا يكفي لتفسير الصورة المُصدَّرة اليوم عن الإنسان المُسلم في الإعلام الغربي، والتي هي في الأساس “إسلاموفوبيا” مُتفاقمة، حتى بين المُثقفين والنخب السياسية؛ إذ ربما لم يكن استحضارُ التاريخ إلا ذريعة للاستثمار في الخوف من أجل أهدافٍ سياسية، تخدم اليمين المُتطرِّفَ المُنتعش بصورة لافتة، والذي يعرفُ ربيعه الانتخابي، عبر أرجاء أوروبا المُنهكة بمشكلاتها وأزماتها.
إنَّ ما يجبُ التركيز عليه أكثر -برأينا- هو مُشكلة أوروبا مع هويتها الثقافية وحدودها أولًا؛ ومُشكلة المُسلمين مع العالم ومع ثقافتهم التي لم تشهد، بعدُ، مُصالحة جادة مع الحداثة من جهةٍ ثانية.
وعلى هذا؛ نرى أنَّ صُنعَ صورةٍ نمطية استهلاكية عن الآخر، تجعله فزاعة في الفضاء العام، لا يستندُ إلى الذاكرة التاريخيَّة العالمية فحسب، وإنما –تحديدًا– إلى الأوضاع المُعقدة التي تعيشها البلدانُ الحاضنة لتدفق المُهاجرين وعدم قدرتها –في ظل الأزمة الاقتصاديَّة الحالية– على تجديد خطاب الاندماج الإيجابي لأبناء الهجرة، في ظل سيادة فلسفةٍ ليبرالية ظلت تفتقرُ إلى إمكانية إدارة الشأن العام، بالانفتاح على الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنة، بعيدًا عن الشكلانية الحقوقية الموروثة، عن تنويرٍ علا وجهَهُ الشحوب. ربما يطرحُ هذا الأمرُ مُشكلة على أوروبا التي فقدت أبهة المركزية التي بوّأتها مكانًا عليًا في نظام الحضارة، لقرون طويلة خلت.
إنَّ العالمَ الغربيَّ وريث “الأنوار” الكونية أصبح يجنحُ، شيئًا فشيئًا، إلى الانكماش والتأكيد على خصوصيته، وعلى “هوية شقية” يراها مُهدَّدة، كما يُشيرُ إلى ذلك عنوان كتاب للفيلسوف الفرنسي اليميني آلان فينكلكروت. وأصبح -أيضًا- مفتونًا بـ “مديح الحدود” كما يُشيرُ عنوانُ كتابٍ آخر للكاتب الفرنسي رجيس دوبري. فماذا يعني ذلك؟ إنَّ أوروبا التي كانت في أساس تصدير قيم الكونية -عبر الاستعمار التقليدي والهيمنة المُباشرة- أصبحت تنكفئ على نفسها، أكثر فأكثر، وتدرك نسبية نموذجها الحضاريِّ بنوع من اليأس القاتل الذي ربما تمَّ معه -أيضًا- استحضارُ نبوءة شبنغلر عن “تدهور الغرب” أو نهايته في حلة جديدة، كما نلاحظ مع الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري، في آخر تصريحاته.
نعتقدُ أن أوضاعًا مماثلة ليس بإمكانها أن تُنتجَ صورة إيجابية عن الآخر، ما دامت الذات الأوروبية ترى نفسها مُهددة، ولم تستطع أن تحتضنَ لحظة العولمة الإشكالية في عالم شهدَ ظهورَ أقطاب أخرى، تنازع القارة العجوز أحقيتها في قيادة العالم والهيمنة عليه.
هذا من جهةٍ أولى. ومن جهةٍ أخرى لا نستطيعُ أن نبرِّئ المُسلمين بصورة تامة، من الصورة التي يتمُ إنتاجها عنهم في الغرب؛ إذ لم يفعل المسلمون الشيءَ الكثير من أجل تجديد حياتهم، وفتحها على إشكاليات الحداثة، بصورة نقدية وغير استهلاكية.
لقد كان دخولنا العصرَ الحديث –خلافًا لذلك– يُشبه سياحة مومياء في عالم مُستقبلي افتراضي. وربما لم نفهم من الحداثة إلا جانبها التقني التحديثي وشكلانية المؤسسات؛ ولم يكن بمقدورنا أن نتجاوز تلك الثنائيات التي مزقت وعينا، وأبقتنا أسرى للتعاطي الزائف مع الهوية، كما تم إنتاجها باعتبارها “أصالة” مُتخيَّلة في مقابل “مُعاصرة” مُفرغة من مضمونها الحضاري والإنسانيّ، وثوراتها العديدة التي أزاحت المُقدَّس من الفضاء العام لصالح مركزية الأنتروبوس.
ويقيننا في ذلك أن الكوابحَ كانت ثقافية وسوسيولوجية بالمعنى الواسع؛ إذ لم يتم اشتغال الذات على نفسها نقديًا على نحو كافٍ، ولم نشهد التجديد الاجتماعي الذي يخلخل في العمق رواسبَ البنيات البطريركية وثقافتها القائمة على الإخضاع وهيمنة الذكورة.
فكيف لنا أن نكونَ بمأمن من انفجار الأصوليات التي لا تمثل –في نهاية الأمر– إلا ردَّ فعل المجتمع التقليدي على تدهور قيمه، أمام هجمة الحداثة المبتورة والشكلية والمُتعثرة؟
قد يكونُ الغربُ، فعلًا، بسياساته وأشكال الهيمنة المُمارسة بصورةٍ سافرة في منطقتنا العربية -حفاظًا على مصالحه وأمن الدولة العبرية– من الأسباب المُؤكدة لتفشي العنف الإرهابي وتنميط صورة العربي–المُسلم، باعتباره عدوًا للغرب والحضارة؛ ولكنَّ هذا وحده لا يُفسِّرُ موجة الأصولية الدينية التي اجتاحت حياتنا، باعتبارها مؤشرًا على الفشل الكبير أمام التحديات المطروحة علينا، منذ قرنين من الزمن، ثقافيًا وسياسيًا وتنمويًا.
لقد بقي الإسلامُ المُستعاد، بذلك، أسيرَ نسخةٍ تقليدية مثلت حلمًا بالخلاص للملايين من المسحوقين، ضحايا أنظمة الاستبداد والعسف والتبعية للغرب. ونعتقد أن هذه الصورة هي السائدة في الغرب عن المُسلم. إنها صورة اليأس من “عالم بلا قلب”، كما كان يُعبِّرُ ماركس في كلامه عن وظيفة الدين. وإذا كان سارتر يصفُ ثقافة أوروبا الكلاسيكية، قبل قرنين، بأنها كانت “حضارة أناس ذكور وبيض”، فبإمكاننا أن نتصور الأوروبي يصفُ ثقافتنا اليوم باعتبارها “حضارة رجال مُلتحين يقمعون المرأة”.
نقول هذا، ونحنُ ندرك جيدًا أنَّ ابن رشد والمعرّي والشيخ الأكبر ابن عربي –تمثيلًا لا حصرًا- يُمثلون ذكرى بعيدة جدًّا عن إسلام عقلاني ومُتسامح ونقدي، طوتها غياهبُ النسيان تمامًا، أمام الغليان الأيديولوجي الذي يُميز المرحلة وعنفها باسم الإسلام.
– أخيرًا، ما هي برأيك الأسباب الرئيسية وراء ما نعيشه حاليًا في منطقتنا العربية من اختلال وانفجار للأصوليات والتطرف في شكله الدينيّ؟
= ربما كان العنفُ المشهدي في العالم اليوم يلبسُ العباءة الدينيَّة الإسلامية ويُصنفُ –سياسيًا- في خانة الإرهاب الأعمى، وهذا صحيحٌ ظاهريًا على الأقل.
إلا أنَّ فهمه باعتباره ظاهرة مُعاصرة يتطلبُ -برأينا- عدمَ التوقف عند النصوص الدينيَّة التأسيسيَّة فحسب لاستنطاقها، وإنما –وربما بدرجةٍ أكبر أيضًا- إحاطة بمُجمل الشروط الوجودية المعقدة التي تشجعُ على انتعاش الإرهاب، باعتباره احتجاجًا وردّات فعل هوجاء على تفكك الروابط التقليدية وتصدع القيم القاعدية للمُجتمع الأبوي–الذكوري، في ظل هيمنة حداثة ليبرالية عرجاء، لم تحسن احتضان الفئات المختلفة والنهوض ديمقراطيًا بالمُجتمع التعدديِّ، من خلال تنمية بشرية فعلية ومتوازنة تقطعُ مع التقاليد بصورةٍ هادئة.
هذا ما يدعونا إلى أن نرى في الإرهاب المُعاصر ظاهرة تتجاوز، بكل تأكيد، منطوقَ النصوص الإسلامية التأسيسيَّة، لتتجذر في أرضية العصر ومُشكلاته الاقتصادية والسياسية ومطالبه التربوية والثقافية.
الإرهابُ احتجاجٌ أعمى، وصرخة أمام فشل الحداثة السياسية في مُعالجة مشكلات المواطنة، والوقاية من إمكان انفلات مارد الهويات الضيقة “القاتلة” من قمقمها، كما يُعبِّر أمين معلوف. وأعتقدُ شخصيًا أنَّ السماءَ الدينيَّة الموعودة لن يكون لها ذلك البريقُ إلا إذا كانت الأرضُ كسيحة وعرجاء، أمام مطالب العدالة والكرامة.
هذا هو الدافع الأساسُ لكل شاب إرهابيّ يطلبُ الخلاص من أرض لم يشعر أبدًا أنها “بيته”. ونستطيعُ أن نلاحظ هنا، بجلاءٍ، كيف أنَّ الدين يمثل سندًا تبريريًا كبيرًا وغطاءً إيديولوجيًا يمنحُ الشرعية والقداسة للعنف الكامن في العلاقات الاجتماعية.
هذا يعني أنَّ الدِّين لا يُستحضرُ لذاته، وإنما باعتباره ما يمنحُ الشرعية. إنَّ العنفَ ليس وليد الدِّين فقط -على ما نرى- وإنما هو بالأساس وليد البنية الاجتماعية التي تفرضُ هيمنة طبقة على طبقة أخرى، أو فئة عرقية وثقافية واجتماعية على فئةٍ أخرى. فالعنفُ –بهذا المعنى– بنيويّ في كل تشكيلة اجتماعية، وهو يتقنعُ بشرعية رمزية، دينية كانت أو ثقافية، من أجل أن يُعدّ أمرًا مقبولًا ومشروعًا.
إنَّ درس بيير بورديو أساسيّ في هذا المجال. تكمن المُشكلة، بالتالي، في تلك اللحظة التي يتحول فيها “العنف الرمزي” إلى “عنف فعلي” أو باصطلاحات أرسطية -إن شئنا- في الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. إنَّ الأصول الدينيَّة والثقافية بعامة لا تُنتج الواقع الرًّاهن، ولا توفر نموذجًا تفسيريًا يؤهل مقارباتنا المُختلفة كي تكونَ أقدر على إضاءة الظواهر الانفجارية بشكل جيِّد. وفي كلمةٍ: العنفُ لا يحتاجُ إلى نص يُبرِّره قدر حاجته إلى واقع يُنتجه.
التطرف الديني الذي ينبع من الأصولية ليس، في جوهره، عودة إلى الدين أو “انبعاثًا للمقدَّس والإله”، كما يحلو للبعض أن يُعبِّر، وإنما هو ردة فعل المجتمع التقليدي على تفككه الخاص أمام التغيرات الكبرى وغير المُسيطر عليها. التدين الشامل علامة قلق.. علامة أزمة.. بحثٌ عن قشة الخلاص في مُحيط عالم فقد بوصلة الاتجاه.. عملية دفن لشظايا الوعي الخائب في رمال الوهم، بدل التحديق في شمس اللحظة.
أما بالنسبة إلى عالمنا العربي-الإسلامي، فما سمًّاهُ الكثيرون “صحوة إسلامية” لم يكن إلا ردّة فعل المجتمع العربي الذكوري–البطريركي على تدهور قِيمه الخاصة، أمام حداثة الدولة العربية الأمنية التي كانت مغامرة نخبوية وغير متوازنة.
لقد خرج التطرف من شقوق خرائب حداثة الدولة الوطنية العربية؛ وظل التدين اعتصامًا بالقيم التقليدية –لا الإسلامية بحصر المعنى– باعتباره تمسكًا بالبنية الاجتماعية السابقة على هجمة الحداثة وتفكك علاقات القوة التقليدية القائمة على الإخضاع.
من هنا، ذلك الانتصار للذكورة وقمع المرأة و”حجبها” والانتصار لكل ما من شأنه أن يمثل شفاءً للفحولة الجريحة من فاجعة “الإخصاء” في الدولة الحديثة. هذا ما يجعلني -شخصيًا- أميل إلى ترجيح كفة التاريخ على البنية في النقاش الدائر حول الإرهاب الحالي، وعلاقته المُلتبسة بالإسلام. كما أميل إلى التحليل الذي يتجاوز كل نظر جوهرانيّ ثقافويّ كسول وعنصريّ، يُفسِّرُ الواقع المُعقد وظواهره المُختلفة، من خلال اتهام ثقافةٍ معينة باعتبارها مصدرًا للعنف، بمعزل عن السياقات التاريخية. وهو الموقف النقدي الإيجابي ذاتُه الذي جعل المفكر الفرنسي الشهير أوليفييه روا مؤخرًا –بعد اعتداءات باريس– يتحدثُ عن “أسلمة التطرف”، لا عن “تطرف الإسلام”، انطلاقًا من وجهة نظر ترى التطرفَ ظاهرةً، تجد جذورها في المجتمع لا في النصوص الدينية التي تُستعاد، بطبيعة الحال، لإضفاء الشرعية على الاحتجاج الكامن لدى فئات عديدة من الشبان الذين لم يجدوا مُتنفسًا كافيًا للتعبير عن وجودهم وتطلعاتهم، أو تأكيد حضورهم في المجتمع المُعاصر.
[sociallocker] [/sociallocker]أوس يعقوب