الشخصنة



إن تقويم الأفكار أو الأعمال أو الأحداث، وقبولها أو رفضها، بناء على النظرة إلى أصحابها، والمزج بين رأينا بالشخص أو الكيان وما ينجزه أو يقدّمه، هو ما يطلق عليه (الشخصنة)، وهو مصطلح يندرج ضمن مفاهيم علم الاجتماع وبقية العلوم الإنسانية.

حين يخرج النقاش أو الحوار عن إطاره الموضوعي الذي يسوق الحجج البناءة التي من شأنها أن تغني الفكرة؛ ويتحول إلى جدل عائم وضبابي، له علاقة بالتوصيف الشخصي وإدخاله في صلب الموضوع، للتشويش على الحقائق المتعلقة به؛ تصبح الحالة (شخصنة)، حيث يطغى الرأي الذي يستهدف الشخص على الفكرة التي من المفترض أنها الأساس.

تعتمد الشخصنة مسار الابتعاد عن المضمون، والذهاب نحو الرغبات المتعلقة بالشخص، وتحليل انتماءاته ورغباته وارتباطاته وبيئته ومسار حياته وسلوكه، والدخول في توصيف نيّاته وكأنها حقائق، وتقديم استنتاجات حول أهدافه المختلفة وميوله أو توجهه السياسي والديني والإثني، وربما طريقة حديثه والتفاتاته، وما إلى ذلك من سلوكيات شخصية يتم تحميلها أكثر مما تستحق، بغية تشويه الشخص أو تدعيمه.

إن الجهل بأسس الحوار أو عرض الأفكار والآراء، أو التعريف بالأحداث ومسبباتها والقائمين عليها، يقود دائمًا إلى (شخصنة) كل ما يحيط بها، ومع نهضة الإعلام وتشعبه؛ أخذت تلك الحالة تتوضح بأبعادها المختلفة -الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية- بصورة أكبر، وتتوضح  كيفية تتبع ميول الأفراد ورغباتهم، وهي تفشي نيّاتهم المتعلقة بتسويق أو تشويه أشخاص بعينهم، لصلة دينية أو فكرية أو عشائرية أو جغرافية، أو تتعلق بالجنس بين ذكر وأنثى أو صداقة وغيرها، حيث يتم الدفع بفكرة معينة تبعًا لصاحبها، وما يتمتع به من قرب أو قبول أو نفوذ مالي أو اجتماعي أو إداري أو سياسي، وتصبح ذات قيمة يجب إبرازها أو العكس حيث يتم تجاهلها استنادًا إلى ذلك.

يصل الخلاف حول الأفكار والأحداث إلى حد إلصاق التهم والشتم والانتقام اللفظي من أصحابها كأفراد، والغاية منه تحطيم الفكرة أو التقليل من شأنها، من خلال تحطيم صورة الأشخاص الذين يقفون خلفها، وهذا الأسلوب من (الشخصنة) يغوص كثيرًا في الأمور الخاصة للأفراد أو الجماعات، أي أن الموقف المسبق أيضًا من “حزب أو تيار أو مذهب أو ثقافة” يقود إلى اعتباره كتلة واحدة يتم تقويمها كشخصية كاملة، من دون النظر إلى الفكرة التي تطرحها أو الحدث الذي تتبناه وأهميته من عدمها.

إن التغطية على الأفكار، من خلال الشخصنة، يبعد الحيادية والاتزان في تقويمها، وهو سلوك مدمر للكثير من الطاقات والحقائق، ومُستقبِل جيد للكثير من الأساطير التي تلامس الأفراد أو الكيانات المختلفة، حيث التهويل بكل ما يحيطها سلبًا أو إيجابًا، وإن سلبية الشخصنة ليست في الأسلوب الذي تعتمده فحسب، إنما في تشويه الثقافة المجتمعية، وفي أثرها العميق بتكريس العداوات بين الناس، وتدعيم العنصرية بين الأفراد، كونها تساهم في التعصب للأشخاص والكيانات.

يتم رفع أشخاص وتجمعات أو أجناس إلى حدود التعظيم؛ فيصبحون رموزًا سياسية أو دينية أو ثقافية؛ لتنتقل حالة تفخيمهم إلى تفخيم أي طرح أو كلمة أو فكرة وردت على لسانهم، بغض النظر عن حقيقتها أو صحتها أو أهميتها، ومن جانب آخر يتم النظر إلى عقائد كاملة وآراء وأفكار وجنسيات وتكتلات من خلال نظرة أحادية.

مفاهيم كاملة يُنظر إليها قبولًا أو رفضًا، من باب (الشخصنة)، كالعلمانية أو التدين أو اليسار واليمين وغير ذلك؛ ليتم الحكم عليها غالبًا من خلال تلك الرؤية غير المبنية على الفكرة، وينقاد الأفراد والجماعات إلى تبعية أشخاص لا أفكار، وخلف فتاوى أو توصيفات أو تحليلات أو أقوال مأثورة لشخصيات مشهورة، حتى لو حوت مضمونًا سيئًا؛ فيصبح أقوام وشعوب تحت عباءة وسطوة أفراد لا أفكار، وكثير من الدول ذهبت إلى حد التدمير الذاتي لمقوماتها بسبب الشخصنة، حيث يتم دمج الدولة بالشخص وتعظيمه من كافة الجوانب، إلى حد التقديس، للتغطية على سلوكياته وما يفعله أو على خلوه من التميز.




المصدر
حافظ قرقوط