عن ضرورة إيصال صوت (سمر) ومثيلاتها



(سمر) امرأة من حلب، في عقدها الرابع، عزباء وفقيرة. لم تكن سمر تملك محلًا خاصًا لتصفيف الشعر، بل خصّصت غرفةً في بيت الأهل، وحوّلتها إلى “صالون”. تراجع عملها كثيرًا، بعد تهجير سكان أحياء حلب الشرقية، ولم يعد دخلها كافيًا لتلبية حاجات أسرتها المكونة من والديها وثلاثة إخوة أصغر منها بكثير.

اعتاد عمها إرسال مبلغ شهري لأخيه، وكان يُرسل الحوالات باسم (سمر)، ولولا معونة العم المقيم في السويد منذ ربع قرن؛ لماتت الأسرة جوعًا. لم يكن لسمر أي نشاط سياسي أو اجتماعي، كانت حبيسة المنزل والأسرة، ولا تزور سوى الجيران المنكوبين مثلها. ذات يوم استدعاها فرع “أمن الدولة” في حلب؛ فهوى قلبها فزعًا وتقصفت ركبتاها من الخوف، قالت: “لم أعد أعرف كيف أمشي، شعرت بشلل في كل جسدي”.

طمأنها الجيران بأن لا غبار عليها، وبأنها ليست مذنبة، فهي تعيش في حارة ضيقة ولا تختلط مع أحد، ولا نشاط لها من أي نوع، لذا فهي بريئة حتمًا، ولا يُمكن فبركة أي تهمة لها، كرر المقربون لها هذا الكلام مرارًا، كي يشدوا عزيمتها قليلًا قبل مراجعة فرع أمن الدولة، وما إن دخلت الفرع حتى كانت التهمة جاهزة: “تلقي أموال مشبوهة من الخارج، لمساعدة أُسر تنظيم (داعش)”.

اعتُقلت سمر فورًا دون السماح لها بالرد، وفي السجن تعرضت للاغتصاب، ثم تم الإفراج عنها، بعد تدخل أحد أكبر الموالين للنظام الذي كان يعرف أسرتها، وتمكنت خلال أسبوع من اللجوء إلى هولندا، بمساعدة مُهرّب.

عاشت سمر في هولندا -التقيتها هناك- في غرفة تقضي وقتها بين قراءة القرآن الذي ما كان يفارق يديها، وبين التحدث مع أهلها في حلب، عبر (سكايب)، وكانت تتناول الأدوية المنوّمة والمهدئة باستمرار، فهي لا تريد أن تصحو، لأن الصحو -بالنسبة إليها- مؤلم جدًا، وتحاصرها صور اغتصابها واعتقالها في فرع أمن الدولة، ولم تكن تتوقع أن يُنتَهك جسدها بتلك البساطة، وأن تخسر عذريتها بتلك “الطريقة المهينة”، على حد تعبيرها.

في أحد الأيام التي اشتدّ فيها حزنها، تناولت سمر كثيرًا من الأدوية المنومة والمهدئة؛ فدخلت في غيبوبة النوم، ثلاثة أيام بلياليها. قالت لي، وهي تشدّ بحركة عفوية يديها المتشابكتين على بعضهما: “أتمنى أن أُنهي حياتي. هل الانتحار حرام؟”.

على الرغم من أنني أعتقد أن الانتحار هو قرار حرّ يتخذه الإنسان، ولا يمكنني وصفه بالحرام، أجبتها: “طبعًا، الانتحارُ جريمة، لأنه قتل للنفس التي خلقها رب العالمين”. قالت وهي تنكمش من الألم: “أشعر أنني قذرة طوال الوقت، الجسد يمكن أن يُنظّف بالماء والصابون، أما الروح فلا يُمكن تنظيفها، أشعر أن روحي فقدت نقاءها”.

كم من سيدة سورية تعرّضت لما خبرته سمر، ولم يصل صوتهن إلى الإعلام وإلى جهات الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المعتقلين، لأنهن اخترن الصمت والإنكار أحيانًا، على الرغم من تعرضهن للاغتصاب داخل السجون السورية.

إيصال صوت سمر ومثيلاتها ضرورة إعلامية بحتة، وواجبٌ أخلاقي اجتماعي تتحمله الجهات المدنية والحقوقية والمنظمات الدولية المناصرة للمرأة. وثقت (الشبكة السورية لحقوق الإنسان)، في عدة تقارير لها، “عشرات الآلاف من حالات العنف الجنسي التي مارستها أجهزة نظام الأسد ضد النساء والأطفال، منذ اندلاع الثورة السورية”، غيرَ أن الوقائع تشير إلى أن هذه الأرقام متواضعة وقليلة، قياسًا بما تعرضت له النساء في زنازين ومعتقلات الأسد. وما يزال النهج الاجتماعي المغلوط الذي يجرّم المرأة، دون وجه حق، هو المسيطر.

صففت (سمر) لي شعري بطريقة رائعة، كانت موهوبة حقًا، ورفضت أن تأخذ أجرًا، على الرغم من حاجتها الماسة إلى المال، فمن وجهة نظرها “أني وهبتُها أجرَها، عندما استمعت لقصتها، ووعدتها بأن لا أركنها جانبًا”.




المصدر
هيفاء بيطار