الدولة المهدورة



يستلزم حجم الكارثة السورية التوقفَ عند أسئلة باتت ضرورة ملحة، وأولها: أين هي مقومات الدولة المنشودة في وقتٍ، بتنا فيه نشهد في محيط المنطقة مقدمات نشوء دول إثنية أو عرقية.

يقول ميكانيك الكم إن كل مادة نشطة وغير مستقرة تسعى -بحكم الميل الطبيعي- إلى الاستقرار، ويبدو استقرارها مرهونًا بقدرتها على إطلاقها فائض الطاقة الذي سبّب عدم استقرارها، فمرة تُطلق أشعة (غاما) ومرة تُطلق جسيمات (بيتا) وغيرها، وككل الدول التي تشهد نشاطًا احتجاجيًا على التعسف، يتحول هذا النشاط إلى حالة غير مستقرة في المجتمع والدولة؛ ما يستلزم البحث عن الكيفية الممكنة للعودة إلى لحظة الاستقرار والإنتاج مجددًا، فاستقالة وزير أو رفع أجور أو إجراء انتخابات مُبكّرة، عادة هي طرق ووسائل مشروعة، لطرح فائض القوة المتشكِّل في الحراك المجتمعي، لاستبداله بتحقيق العدالة والوصول إلى المطالب المشروعة ولحظة الاستقرار المنشودة.

في هذا السياق، يُعدّ وجود حاجز من الطاقة يمنع خروج كتلة كبيرة من حالة غير مستقرة، تشهد نشاطًا إشعاعيًا كبيرًا، سؤالًا مثيرًا للجدل، لا في ميكانيك الكم فقط، بل في عالم تشكُّل الدول وتفككها، ويبدو أن ثمة حاجزًا عريضًا، يُسمّيه صانعو السياسة الدولية خطوطًا حمراء لتشكيل دولة وطنية في شرق المتوسط، في خضم بحر ثورات الربيع العربي الضاربة موجاته في أعماق تشكّل المنطقة من الاستبداد والهيمنة العسكرية الأمنية المطلقة على كل مفاصل الدولة والمجتمع. وما عدمية القدرة على الانتقال إلى دولة مستقرة واضحة المعالم -سواء كانت دولة المواطنة التي ينشدها الربيع العربي وثورات شبابه، أم إعادة هيمنة المنظومة العسكرية الحاكمة مجددًا كما كانت قبل ذلك- إلا مؤشر كبير على هدر الدولة الممكنة؛ ما يطرح على العديد من المكوّنات الإثنية الموجودة في المنطقة أسئلةً سياسيةً عن قدرتها على العبور في نفق التشكّل، بدل العبور فوق حاجز عام، لم تستطع قوى المجتمع عامة عبوره.

ظاهرة (النفق الكمي) هي ذاتها التي تشهدها المنطقة اليوم، في الاستفتاء الذي أجرته المكونات الكردية في شمال العراق، وهي ذاتها التي عبّر عنها البرزاني، بأنه لا يمكن انتظار حكومة العراق الفاشلة التابعة لحكومة الملالي الإيرانية، وقبلها دولة التسلط البعثية العسكرية، في أن تُنتِج دولة وطنية لعموم العراق؛ ما دفع بمكون كردي عريض الطيف إلى محاولة العبور إلى دولة بذاتها في شمال العراق، كانت قبل اليوم مجرد حلم إثني، تَحول دون قيامه كلّ أشكال المقومات السياسية والاقتصادية وبناها المادية لإخراجها للوجود.

يمكن للعقل السياسي اليوم طرح الكثير من الأسباب الداعمة أو النافية لموضوع تشكيل الدولة الكردية والاستفتاء حولها في العراق، وما يُشكّله من دافع كبير للأكراد السوريين أيضًا، في البحث عن حلمهم في السياق ذاته، وربما تشهد المنطقة بروز مكونات عرقية وإثنية أخرى، تطرح الموضوع ذاته كمشروع بديل عن منظومات حكم العسكر المتساقطة، وأيضًا عن بديلها المهدور، إلى اليوم، في مشروع الدولة الوطنية المنشود، ولربما من الحيف السياسي التسرع في حكم ثناء أو رفض لمحاولات كهذي، بل من الضرورة طرح أسبابها ونقدها، والبحث في مؤشرات ومقومات استمرارها، فمنذ فجر الثورة السورية وموضوع الدولة محطّ جدل وخلاف، لم يكن قط خلافَ المتجادلين على عقد اجتماعي عام، بقدر ما كانت على قدر كل فريق سياسي، فعلى شاكلة النُظم الحاكمة عسكريًا ذاتها كنظم شمولية، تشكّلت أحزاب المنطقة القومية والماركسية والإسلامية المعارضة، وكل حزب حاول أن يصبغ الدولة بصبغته ذاتها وأيديولوجيته السياسية، معتبرًا تجربته النضالية والسياسية مركزًا للدولة العصرية الحديثة، في حين أن الدولة الحديثة، بصفاتها العلمانية، بعيدة كل البعد عن هذه الصبغة وحيدة اللون. ولربما وجدت محاولات نظرية لطرح توافقي، كعقد اجتماعي أولي في هذا، كوثيقة العهد، في لقاء المعارضة السورية في القاهرة صيف 2012، وخطة التحول الديمقراطي لبيت الخبرة السوري مطلع عام 2013، ومحاولة توحيد قوى المعارضة في كتلة الائتلاف، وغيره من المشاريع التي لم تلامس مصالح الناس في أرض الواقع فعليًا، فبدل الانضواء في مشروع المتخالفين سياسيًا في وحدة المصير والهوية؛ بدأت تظهر نزعات الهيمنة والمحاصصة المناطقية، ووضعت المكونات الفردية المحلية بديلًا عن مقولات المواطن السوري؛ ما ساهم في تأجيج النزعات المحلية كمظلومية عامة، تجتاح الشارع السوري، ولكن كل على طريقته. في هذا السياق، وقف الجميع إلى اليوم عاجزًا عن عبور الحاجز المتعالي، في الانتقال السياسي إلى مرحلة ما بعد نظم العسكر، وتزايدت المظالم وأعمال العنف المترافقة، مع غزو بربري روسي وميليشاوي إيراني؛ زاد في تأجيج النزعات الطائفية والعرقية التي لم يستطع إلى اليوم أي مشروع وطني عام معالجَتها وتحقيق أولى بوادر استقراره الفعلية.

النقد -في إحدى صوره- جلدٌ للذات، إن كنا نريد أن نقف على حقيقة فاعلية القوى السياسية الموجودة، لكنه ليس عملًا ارتكاسيًا أو إحباطيًا، بقدر ما هو بحث في ثنايا الواقع عن المسارات الفعلية له، بدل الاكتفاء بحلم الشعارات والأهداف غير الممرحلة زمنيًا، والمتنازع عليها في كل لحظة، بين سلمية مدنية وعسكرية، بين دولة مدنية ملتوية وأخرى إسلامية وخلافها، قومية أو اشتراكية، بينما كانت قوى الهيمنة العسكرية للنظام وداعميه، من روس وإيرانيين، يقضمون الأرض قطعة قطعة، بطرق عسكرية مرة، وسياسية مرات أخرى، أهم مفاتيح نجاحها هو اللعب على تناقضات وتباينات حوامل مشروع الدولة المهدورة، وبالتالي من الطبيعي، والطبيعي جدًا، أن تتعالى الأصوات المنادية بضرورة الانفكاك عن مشروعي النظم العسكرية المستبدة والفاشية والمتهاوية قبضتها الصلبة، وعن فشل المشروع البديل الوطني في التحقق حتى اليوم.

يبقى التساؤل المفتوح للجدل: هل ستكون هذه الانفكاكات المحتملة لدول إثنية مُقدّمة لإنتاج دول حديثة، عندما تستقل عن النظم العسكرية الحاكمة؟ وهل ستصمد في وجه التحديات السياسية والاقتصادية الكبيرة لدول المحيط؟ ومتى يمكن أن نعيد إنتاج أسئلة الدولة المنشودة، بطرق وأدوات جديدة تستند إلى الواقع بمتغيراته، لا إلى أضغاث أحلامنا الأيديولوجية المتهاوية إلى اليوم؟ لسان حال المواطن البسيط في دول القمع والقتل هذه يقول لن يحدث هذا؛ ما لم تسقط كل الأيديولوجيات الشمولية المتنافسة على كسب سياسي مرحلي قصير النظر.




المصدر
جمال الشوفي