ما يشبه الذاكرة



كنّا صغارًا، يا أبي، ثلاثة صغار، يحملون ضوء الشمس في كفوفهم، ويواربون اللطم والصفعات بأصابعهم النحيلة، وأعذارهم التي يستندون إليها، كلما نضجت خطاياهم على مواقد المدينة.

كنّا صغارًا يا أبي، نستعيرُ من الجدات الحكايات، ونسهب في الحلم الطفل، الحلم الذي بقيَ معلّقًا على شبابيك طفولتنا، ننتظر العيد لنحيكَ لأجسادنا الملابس، ولشفاهنا الحلوى، كنا نعرف الملابس والأعيادَ والحلوى، وضفة قصيرةً على نهر بردى نبادلها الضحك والبرد.

كنا صغارًا، نقاسم شجر الجوز التسلق ونسرق مؤونة السناجب والنحل، كنا نضحك يا أبي، أجل كنا نضحك، من أي كلامٍ عابرٍ، ونكرر النّكات الساذجة على مسامع البر، ونضحك يا أبي، غير آبهين بغدٍ قد يأتي محمولًا على أكتاف الحزن أو الفقد، كنا -كما علمتنا- نعرف كيف ننتظر طيور السنونو تحت نوافذ الغرباء، وكنا نعرف مواعيدَ هجرة طيور اللقلق ومواعيدَ دورانها في فراغٍ ليس لنا، ومواعيدَ الفرح القصير والمطر وقوس قزح، كنا صغارًا بأعناقٍ قصيرةٍ تتدربُ على الالتفات، كي تقطع الحقول بسلامٍ دون أن تدوس أعشاش النمل أو رغيفًا ألقاهُ غريبٌ على جوع الأرض.

كنّا صغارًا نقرعُ أجراسَ الجيرة وأبوابهم ونهرب يا أبي، أجل كنا نهربُ لا لخوفٍ وإنما من أجل أن نركض دون حياءٍ في أزقة الريف ومتاهاته، ثم نسقط محتفلينَ بالشتائم والوحول التي على أجسادنا الطرية.

كنّا صغارًا، ونعرف لغةَ النهر والشجر والعشب المبلل بألسنة المطر، نعزفُ موسيقانا على “التنك” المثقوب، ونرمي حجارةَ الحظ في البئر لنحصي دوائر الماء بأعمارنا الصغيرة. نجعل من خشب الرمان والليمون سيوفًا ومقاليعَ للقنص، هكذا بدأنا نرتادُ لغةَ القتل بحجارةٍ تطارد أرواح الشجر وطيوره، نحتمي بكثافة الأغصان، ونرمي أعشاشَ الحياة بسهام طفولتنا.

كنا صغارًا يا أبي، وكنا نخاف الله كثيرًا، نحدثه قبل أن ننام، ونطلب منه أن يغفر لنا خطايانا، وجرائمنا التي ارتكبناها في الشوارع والحقول والأرصفة، أجل كنا صغارًا، ولم نكن نلتفتُ إلى فتاة الحي ذات النهدين الصغيرين، والندبة في عنقها.

ثم كبرنا قليلًا فقط، وصار لكل واحدٍ فينا صبيّة يحبها، وشجرة تحمل اسمه، وصرنا ننتبه إلى النهود التي من شمعٍ يذوبُ تحت القمصان الرقيقة، فنمارس الاستمناء بعيدًا عن عيني الغراب المُطل، وصرنا نصعد سطوح المنازل، ونقتفي أثر روائح العذارى وعطورهن، فنرمي لهنّ بقصائدَ مرتبكة يحملها جوعنا إلى الجنس، ونثقب في الجدران عيونًا قبالةَ النوافذ التي تتعرى الجميلات أمامها، للفت انتباه المُروّض في فحولتنا الغرة، فيركض في أجسادنا الخاملُ المسكتين. ها هي تحك فخذها.. ها هي ترتب شعرها.. ها هي تهَب نهدها الحر لزجاج النوافذ.. أقاويلُ كنا نرددها على غير خجلٍ، كانت مأزقًا نستعين بحرائق الكلام لننجو من شباكه.

كبرنا يا أبي، وصرنا نوفر الليرات القليلة، لنشتري علب التبغ الرخيصة والكبريت، ونحفظها جيدًا في شقوق الإسمنت وروايات آرنست همنغواي، وغسان كنفاني، صرنا ندخن ونرسم على الجدران قلوبنا الطرية.. قلوبنا التي ستثقبها يومًا سهام إحداهن.

***

كانت النافذةُ تشيرُ إلى الشرق، يفصلها عن البستان نهر صغير، شجرة مشمش وصف من الحور الذي يرتدي الضوء وكأنه استعار من القمر فضته، في ذلك اليوم استيقظنا باكرًا نحاول فهمَ صراخ الأشجار وذعر الطيور التي غطت الفراغ المسحوب من زرقة السماء.. المسحوب بأجنحة السنونو والدوري والحمام البري تصّفق برعبٍ وكأنما تستجير بالريح، مخفور صوتها بصوت المعاول والمناشير الكهربائية، ومن ثم السقوط المدوي لأشجار الجوز الهائلة.. سقوط شبحيّ أعمى يقطّع المشهد أثلامًا لمجزرة جماعية، شهدتها الريح وعيوننا الصغيرة التي تطل من خلف حيرة النوافذ، كانت الأشجار تتلوى على تراب الأرض مذبوحةً من جذورها، تتلوى بأعشاشها وسناجبها وطيورها وورقها وأسمائنا التي تُركت عميقًا في أوردتها.

في ذلك الصباح الخريفي البعيد، عندما أحالت البلديةُ الأرواحَ إلى إسمنت رمادي، وجدرانٍ تفصل أصابعنا القصيرة عن الحياة، كُتب عليها بخطّ عريض: “سورية الحديثة“. ومنذ ذلك الحين، ونحن نرتجلُ تعاريفَ أقلّ حزنًا وانهدامًا للحداثة البشرية. ومذ ذاك أيضًا نسينا لغة الطير والنهر والعشب القصير، وصرنا بألسنةٍ تلفظ الحديد ساخنًا كلهاث.

***

كبرنا، يا أبي، وصرنا نرتاد المقاهي ونجلس على المقعد المطل إلى فخذ إحداهن، نقرأ الجرائد ونتبنّى القضايا، إذ لا بدّ من قضيةٍ نحتمي بها، ربما تكون الشيوعية أو فلسطين أو الماركسية أو حتى الدونكوشوتية. أجل كبرنا، وصرنا نعرف المخبرُ من نظارتيه السميكتين، وعينيه اللتين تغرقان في صمتهما، بينما تسجلان كل ضجيج وغبارٍ يثيره قارئٌ ما أو مارق ما.

كبرنا، وصار لنا غرفنا السرية، ندخلها من أبواب ستقفلُ علينا جيدًا مخافةَ أن يبتلعنا “الذباب الأزرق”، كما يطلقون عليه في بلادي.. الذباب الذي ينتحل صفاتٍ كثيرةً قد ترتدي قمصانًا بياقاتٍ عالية، وأحذية كبيرة لا تخطئ وجيبها الأذن مطلقًا.

صرنا في الثلاثين يا أبي، وصار الوطن حقيبةً يحملها ذو النياشين والعبارات الجاهزة وأصحاب القضايا يا أبي، أما نحن فما زلنا نحتمي بالبارحة، ممسكينَ بخيوطها الضئيلة والواهية كي لا نسقط في فخّ الحرب، البارحة التي ترفد أنهار الذاكرة في رؤوسنا:

“ما زلنا صغارًا نهتدي إلى بيوتنا بنجمٍ صغير يلمع على الرابية كعلامةٍ يقين، وما زلنا صغارًا نمر كل ليلةٍ من “طريق البستان”، نصلي لأرواح أشجاره وطيوره وعشبه وخريفه، ما زلنا صغارًا نعتقد أن الحاضرَ كاذب، والغد كاذب، وأنّ الجوز سينمو من جديد على طريق بيتنا، وأنّ الأموات سيعودون وفي أيديهم الشموع، وفي جيوبهم جروح البلاد، وأنّ الحرائقَ التي تنتصب أمام أعيننا ما هي إلا نتوءات في عمق السماء، ما زلنا صغارًا نحصي الليل بالدعوات وقصص الجدات عن الجان والأكواخ الغريبة التي تحرس الغابات من القاتل، ما زلنا صغارًا، ولم نرَ القاتل إلا في الحلم، كان أيضًا يرتدي قميصًا بياقةٍ عالية ونياشين كثيرة، وكان قبيحًا، ومستسلمًا لضحاياه، أما نحن فلم نكبر، وبقينا أسرى خلفَ حدود الذاكرة. صغارًا.. صغارًا، يا أبي.




المصدر
قصي زهر الدين