on
دولار واحد يكفي لقتل عربي
ربما لفتت أغنية اشتهرت بعنوان “الغريب يَقتلُ عربياً” لفرقة روك بريطانية، الأسماعَ والأنظارَ في عام 1978، فظلّت موضع جدل طيلة سنوات، واتهمت بأنها تحثّ على العنف ضد العرب، خاصة مع إصدارها في الولايات المتحدة الأميركية عام 1986، ضمن مجموعة غنائية حملت عنوان “وقفة على الساحل”، ولكن لم يتطرق أحد إلى الجذور الأعمق لتعبير من هذا النوع.
كاتب الأغنية روبرت سميث، المغني والعازف ورئيس فرقة الروك تلك، قال عنها إنها كانت تعبيراً عن انطباعه حول اللحظات المركزية في رواية “الغريب” للفرنسي ألبير كامو.. وتصف حادث إطلاق الرصاص من قبل المغني، وهو ميرسو بطل الرواية، على عربي (جزائري) عند ساحل البحر. ويضيف “.. جاءت إدانة ميرسو جراء نزاهته في التصريح بمشاعره، واعتبر غريباً لأنه رفض أن يكذب”!
تغني الجوقة هذه اللازمة “أنا حيّ/ أنا ميت/ أنا غريب/ يقتلُ عربياً”، وبالعودة إلى زمن أبعد نكتشف أن لازمة من جنس هذا المعنى كانت تطلقها مكبّرات صوت في حي مانهاتن من على السيارات والمنابر في نيويورك صيف العام 1948، متوسّلة إلى الأميركي أن “ادفع دولاراً لتقتل عربياً”، حسب شهادة الصحافي الأميركي لورنس غريزولد في كتاب له حمل هذه اللازمة الأخيرة عنواناً (ترجمته إلى العربية “دار العلم للملايين” عام 1954).
يتعلق الأمر بقضية فلسطين، ولكنني اكتشفتُ في السنوات الأخيرة أن هذه “الدعاية الظامئة إلى الدم” حسب تعبير لورنس، التي ترددت في حي مانهاتن، والتي ستتكرر بصيغة هتاف “اقتلوا العرب” خلال حرب حزيران في العام 1967، حسب شهادة شاهد عيان هو كمال الصليبي في سيرته الذاتية “طائر على سنديانة” (2002)، تمتد جذورها إلى أزمان أبعد، تم فيها تصوير “العربي” منذ أوائل القرن العشرين على أنه “لص” و”تاجر عبيد” و”همجي”. جاءت هذه الصور في سياقات متنوعة، أكثرها إثارة للدهشة كتب الأطفال المكتوبة في أوائل القرن العشرين باللغة الإنكليزية، وخاصة سلسلة حكايات الأميركي إدغار رايس بوروس (1875-1950)، بداية بحكاية “طرزان ربيب القردة” (1914) ثم “عودة طرزان” (1915)، فمجموعة “حكايات غابة طرزان” (1919)، وصولاً إلى ما ينوف على العشرين حكاية من هذا النوع.جاء في تقديم لورنس لكتابه: “كانت الواقعة الأكثر تأثيراً في نفسي في ذلك الصيف، أن الأنباء والتعليقات الخاصة بحرب فلسطين كانت متحيّزة تحيزاً تاماً.. كان صوت إسرائيل قوياً جداً في الولايات الأميركية المتحدة، أما صوت بلاد العرب فكان صامتاً.. وأحسب أن ذلك هو الذي دفعني إلى أن أتخذ قراري”، أي الذهاب إلى البلدان العربية لمعرفة حقيقة ما يجري.
اللافت للنظر أن هذا الكاتب مخترع هذه الشخصية الخيالية، الذي يقال أنه لم تطأ قدماه تراب أفريقيا، حيث مسرح حكاياته، يكرّر في غالبية حكاياته، بمناسبة وبلا مناسبة، أن الفرق بين الرجل الأبيض والرجل الأسود يكمن في أن الخالق أودع في دماغ الأول شرارة سماوية، بينما حرم منها دماغ الثاني. يقول في إحدى حكايات الغابة تحت عنوان “إله طرزان”، إن الصبي الأسود الصغير “تبو”، الذي حاول طرزان تبنيه، ارتجف حين رأى طرزان يقفز على ظهر ظبي مثلما يفعل الأسد، ويغرس أسنانه في عنقه، إلا أنه استثير أيضاً، ودخلت دماغه الزنجي البليد لأول مرة رغبة مبهمة في أن يقلّد من تبنّاه، ولكنه كان يفتقر إلى الشرارة السماوية التي أتاحت لطرزان، الصبي الأبيض، الاستفادة من تدرّبه على طرق الحياة في الغابة القاسية. ما افتقر إليه هو المخيلة، ولكنها ليست سوى الاسم الآخر للذكاء الخارق، وهي التي بنت الجسور والمدن والإمبراطوريات، ولا تعرف الحيوانات شيئاً من هذا، وليس لدى السود منها سوى النزر اليسير!
وتمتلئ هذه الحكايات بعجائب أكثر من هذه، لعل أكثرها إثارة للفضول تلك القدرة التي امتلكها ربيب القردة على تعلّم اللغة الإنكليزية، قراءة وكتابة (لا نطقاً بالطبع) من دون معلّم، من مجرد ملاحظة سطور الكتب التي عثر عليها في الكوخ الذي بناه والده اللورد غريستوك، وولد فيه قبل أن تقتحمه القردة، فتقتل أباه وأمه، ويكون من حسن حظه، هو الطفل الرضيع، أن تختطفه القردة “كالا” وتحتفظ به وتربيه كابن لها.وفي عدة مناسبات نجده يرجع ذكاء طرزان وحسن تخلّصه إلى الدم “الإنكليزي” الذي يجري في عروقه. وعن قبيلة أفريقية يصفها بالمتوحشة، كما هو وصفه لكل القبائل الأفريقية، يقول “.. ربما رغب طرزان، لولا وجوههم السوداء وملامحهم الشائهة، وواقعة أن أحدهم قتل “كالا” (القردة التي قامت على تربيته)، أن يكون واحداً منهم. وفكّر بهذا أحياناً، ولكن كان يبرز في داخله، حين تخطر بباله هذه الفكرة، شعور بنفور غريب لا يستطيع تفسيره أو فهمه؛ لقد عرف أنه يكره الجومانغاني (الرجال السود) فحسب، ويفضل أن يكون أفعى بدلاً من أن يكون واحداً منهم”.
ويتصدر “العرب” ومعهم عبيدهم “أكلة اللحوم البشرية”، أخبار الهجمات على القرى الأفريقية. يصرخ زعيم إحدى القرى الصديقة لطرزان: “عاد المعتدون العرب وعبيدهم آكلو لحوم البشر طلباً لعاجنا ونسائنا” (حكاية عودة طرزان، ص 215).
هذه الحكايات، ذات النسغ العنصري، التي غذّت المخيلة الغربية، وليس الأميركية فحسب، بشتى الصور المنفرة للعربي، القاتل واللص وتاجر العبيد في أدغال أفريقيا، والداعية ضمناً إلى قتله، ظلت سارية في اللغة الإنكليزية تغذي مخيلة الكبار والصغار طيلة النصف الأول من القرن العشرين، ولم تظهر في اللغة العربية حين كانت هذه الحكايات تترجم كثرتها الكاثرة إلى العربية في خمسينيات القرن الماضي.
ما أخذه بعض العرب على هذه الحكايات، فقط أنها تربي الأطفال على العنف، وتزيّن لهم أنماطاً من السلوك غير مستحبة، وبعيدة عن القيم والتقاليد المعروفة في الوطن العربي والبلدان الإسلامية. ولم يتسن لهم أن يشاهدوا ويلمسوا نتائجها إلا حين بدأت تغذي “الدعاية الظامئة إلى الدم”؛ حين صرخت مكبرات الصوت في مانهاتن “ادفع دولاراً تقتل عربياً”، وحين صرخت الجموع مبتهجة في شوارع مدن غربية عام 1967 “اقتلوا العرب”. وما زالت هذه الحكاية، أو الحكايات، متواصلة، والصراخ يعلو أو يخفت بين الحين والآخر.
المصدر