حكاية دمنة والثور شتربة



قال ابن المقفع:

لمّا اشتدّ بطش الأسد ملك الغابة، وألحق الحيف بالحيوانات العاشبة، وأطلق لأعوانه من الحيوانات اللاحمة اليدَ في أن يفترسوا من حيوانات الغابة ما شاء لهم الافتراس؛ تداعت الحيوانات العاشبة لاجتماع تتدارس فيه وضعها، وما آلت إليه أمورها من ظلم وعسف على يد النمر والفهد والذئب والضبع ومن لفّ لفّهم من أعوان الأسد، ولتضع الخطط الناجعة الكفيلة برفع هذا الظلم، ووضع حدّ لانتهاك حقوقها في العيش الكريم في الغابة، أسوة بغيرها من الحيوانات اللاحمة. وقد أسفر الاجتماع عن المطالبة بإلغاء قانون الغاب، وتفعيل قانون عام يسري مفعوله على جميع حيوانات الغابة من دون تمييز، بين عاشب ولاحم. فالكل له الحق أن يعيش في هذه الغابة بسلام، على أن يكون الجميع يد واحدة في مواجهة أي خطر خارجي يستهدف أمنهم وسلامتهم.

حينما وصل الأمر إلى الأسد ملك الغابة؛ ثارت ثائرته، وأخذ يزمجر ويتوعد بالويل والثبور. فالغابة غابته، ولا يحق لكائن من الحيوانات أن يضع قانونًا بديلًا عن القانون الأساس المعروف بشريعة الغاب. فقد وضع والده هذا القانون المقدّس، وعمل به طوال فترة ولايته، دون أن يجرأ أحد من سكان الغابة على الاعتراض.

وما هي إلا أيام قلائل، حتى نشب القتال بين الفريقين، واستعرت نار الحرب في الغابة، فكادت تأتي على شجرها وحجرها. وكان أن مالت الكفّة لصالح الحيوانات العاشبة، فصاحب الحق منصور دائمًا، ولا يموت حق وراءه مطالب.

غير أن الأسد -ملك الغابة- حين رأى عرينه على وشك الانهيار فوق رأسه؛ فكّر ودبّر، وجمع أركان حكومته من النمر حتى الضبع يطلب المشورة، ويستفتيهم في الأمر، وطلب منهم وضع خطة عاجلة للحفاظ على العرين المهدد بالسقوط. فوقف النمر كبير حاشية الأسد وقال: ليس لهذا الأمر، يا مولاي، غير “أبي رغال”. قال الأسد: ومن هو أبو رغال؟ قال: إنه الثعلب دمنة، صاحب المكر والدهاء.

فأرسل الأسد من فوره يستدعي دمنة. ففطن دمنة إلى أن الأسد يريد استشارته في أمر الحيوانات العاشبة، فتوجه إلى أخيه كليلة، يسأله النصيحة قبل أن يتوجه إلى الأسد، فنصح له كليلة أن يكون صادقًا مع نفسه، فمن شاورك دخل في حظك. عندئذٍ توجه دمنة إلى الأسد، وقبّل الأرض بين يديه. فقال له الأسد: ما تقول يا أبا رغال في هذا الأمر الذي نحن فيه؟ قال دمنة: الأمر أمرك يا مولاي، فإن أطلقت يدي كان لك ما يسرّك من أمري.

أطلق الأسد يدي دمنة، فتوجّه من فوره إلى ثور خامل كسول يدعى “شتربة”. ليس له في العير ولا في النفير؛ فسلّم عليه سلام الصديق للصديق. وقال له: أراك يا شتربة قابعًا هنا، والأسد سيد الغابة يسأل عنك. قال الثور: وماذا يبتغي الأسد مني. إن بني قومي قد أعلنوا الثورة عليه، فنصحت لهم فلم ينتصحوا؛ فانتحيت جانبًا. قال دمنة: ولهذا الأمر يطلبك. يريد أن يرفع من مقامك، ويعلي من شأنك بين قومك.

فتحرّكت في شتربة شهيّة السلطة، وحمية القيادة، وتوجّه من فوره إلى الأسد، وقبّل الأرض بين يديه قائلًا: أنا طوع أمرك ورهن مشيئتك يا مولاي. ذُهل الأسد ملك الغابة من مجيء شتربة، وكان يظن أنه ركن مهمّ من أركان ثورة الحيوانات العاشبة؛ فرحّب به، وأدنى مجلسه منه، وأمر بوضع الإمكانات كافة بين يديه لمواجهة بني قومه. وأخذ الثور شتربة يصول ويجول، ويعمل بين أهله وعشيرته تقتيلًا وتنكيلًا، حتى علا شأنه بين الحيوانات اللاحمة، واشتهر أمره، حتى كاد يهمل النمر والفهد أكبر أركان الأسد. وأخذ القريب والبعيد يتحدث عن بطولات شتربة، ومضائه في الفتك بأعداء الأسد.

أمام هذه الشهرة التي نالها شتربة، والحظوة التي حظي بها في أوساط العرين؛ تحركت الغيرة في قلوب أركان العرين، فاجتمع النمر والفهد يدبّران أمر التخلص من شتربة، قبل استفحال أمره. غير أنهما أرادا أخذ رأي الأسد في الأمر. وكم كانت دهشتهما عظيمة حينما أطلق لهما الأسد اليد في التخلص من شتربة قائلًا: لقد انتهت مهمة شتربة، ولم نعد بحاجة إليه.

استدعى النمرُ دمنة مرة أخرى، واستشاره في أمر التخلص من شتربة؛ فضرب أبو رغال على صدره وقال: أنا لها. وقبل أن يبادر إلى فعل أي شيء توجّه إلى أخيه كليلة يطلعه على الأمر. لكن كليلة عذله؛ إذ ليس من المروءة أن يضطلع أخوه دمنة بهذه الأمور، والملوك لا تؤتمن صحبتها. غير أن دمنة لم يلتفت إلى كلام كليلة، وأمر من فوره بحفر حفرة في الطريق إلى العرين، وسترِها بأغصان الأشجار وبعض العشب. وذهب إلى شتربة زاعمًا أنه رسول الملك للحضور بين يديه، ابتغاء مكافأته على ما بدر منه من جهد. وقاده في الطريق الذي يفضي إلى الكمين الذي نصبه له، وما إن وصل شتربة إلى الفخ حتى سقط فيه، فوقع في شر أعماله؛ فدعا دمنة أعوانه لردم الحفرة فوق شتربة. وأُعلن على الملأ من سكان الغابة أن شتربة مات شهيدًا في سبيل الحفاظ على العرش. وأقيم له مأتم حضره النمر والفهد نيابة عن الأسد. وأشادا أمام الملأ ببطولاته. أما كليلة فقد وقف جانبًا، وقال: هذه نهاية من يغترّ بصحبة الملوك.


فوزات رزق


المصدر
جيرون