وحدة الإنسان المعرفية

27 تشرين الأول (أكتوبر)، 2017
7 minutes

كلّما تقدّم الإنسان بالعمر؛ وجد أن معرفته ليست مقتصرة على تجربته وتاريخه الفردي، وإنّما على تاريخ أسرته، وتاريخ قبيلته والمنطقة التي ينتمي إليها، والدين الذي تربى في أحضانه، وصولًا إلى تاريخ البشرية جمعاء. خاصة أن الوعي الداخلي يتشكل في السنوات الخمسة الأولى للطفل، والتي ينساها فيما بعد، لكنها تدخل في بناء شخصيته المكتسبة من المحيط. ونحن لسنا بمعزل عن الإنسان البدائي، كما أكّد إدغار موران، الفيلسوف الفرنسي الذي كرّس حياته منذ ثلاثين عامًا في البحث عن منهجية قادرة على تحدّي التعقيد الذي يفرض نفسه حاليًا، مطلِقًا مصطلح “الكهوف الداخلية” الذي ورد ذكره في كتابه (النهج، إنسانية البشرية، الهويّة البشرية). ترجمة د. هناء صبحي. تتيح لنا حضارتنا الكشف عن عصرنا الحجري (الداخلي): حيث تعج أعماق كهوفه بانفعالات لا واعية ولا يمكن تسميتها. كل ما كان يهدد إنسان الكهوف، أخذ -اليوم- يشغل بالنا ويقلقنا ويهددنا من الداخل.

طفولة تاريخنا الإنساني والحضاري، بما نحمله في داخلنا من هواجس وانفعالات لا واعية، وانطباعات ومشاعر محمولة في جوفنا كالخوف، والقلق، والجوع، والاغتراب، والوحدة، والحزن، والفقد، والتعلّق، والملكية، وهاجس البقاء والخلود، إضافة إلى الأسطورة (طفولة المخيلة البشرية) والتي تظهر في لحظة العجز عن تفسير الواقع، متمثلة بالخرافات والشيطان، والملائكة، والوحوش، والآلهة، وغيرها. هذه البدائية تشبه طفولة الفرد، لكنّها على المستوى الجمعي هي طفولة معرفية جمعية، لا تنفصل عن التجربة المتراكمة لحضور الإنسان على الأرض بامتداد تاريخه وحضارته المندثرة والباقية.

إذن، لكل فرد تجربة الإنسان البدائي من خلال تجربته الجنسية والتزاوج والحفاظ على نسله، واهبًا طفله نتاجه الفكري والتطوري، مضافًا إليه نتاجه الإجرامي، للتغلب على فكرة الموت والحياة كما أكّد أرسطو، والتي هي خارج قدرته المصيرية، فإثبات الذات هنا يأتي من خلال خصب نسله، وقتل غيره! بهذا يكون الإنسان قد حقق معادلة الحياة باستمراره، والموت بقتل غيره. ليمتلك صفة من صفات الألوهية التي لا تزال تكمن في وعيه الداخلي حتى عصرنا الحالي، وذلك لاستمرار ملكه على الأرض، ولن يتوقف عن القتل والحروب، وإن اشتركت كل البشرية بالجينات الوراثية وبالقرابة، وهذا ما تؤكّده الجريمة الأولى في طفولة الإنسان، من خلال قتل قابيل لأخيه هابيل.

غريزة البقاء التي جعلت الإنسان البدائي يطوّر معرفته لتهذيب المحيط حسب حاجاته، هي نفسها غريزة البقاء التي تعمل عند الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة، وبخاصة فاقدي البصر، وهي الحاسة الأكثر طغيانًا على الحواس البشرية، إضافة إلى فاقدي البصر والسمع معًا، وهما من الحواس المهمة لتفاعل الشخص مع محيطه من خلال تعريفه اللغوي. وبهذا فإن تركنا هذا الطفل يتعامل مع المحيط من دون وصوله إلى حالة التعريف والتعرّف؛ فسيكون في حالة همجية بقائية، تصل إلى الحاجات الأولية فقط. وهي حاجات الإنسان البدائي الفطرية نفسها. لكن في حال استخدمنا معرفة الحواس التطورية الخمس عند أشخاص آخرين، في سبيل تعليم حاسة كاللمس، من الحواس الخمس لذوي الحاجات، مضافًا لها النطق؛ فسنكون إزاء معرفة فكرية تختزل الحواس الخمس -نوعًا ما- بحاستين ليعرّف العقل المحيطَ من خلالهما، ويطلق تسميات على إبهامه. فهي تراكم تجارب أخرى في سبيل تطوير تجربة بدائية، هي نفسها التي تطورنا منها من خلال التجربة الفردية. وهذا يؤكد أن الإنسان ليس بمعزل عن بدائيته.

استكشاف العقل للمحيط، هو نتاج معرفتنا حاليًا، فحالة الترويض التي أوصلها العقل إلى المحيط وبالعكس، هي حالة اندماج مع المجهول، وإطلاق المعرفة عليه، وإن كانت معرفة خاطئة، في سبيل أن يطمئن إليها العقل. وهذا ما يجعل الطفل يطمئن لوجود أهله من حوله، فهم أداة التعريف له لفهم المحيط. ثمّ فيما بعد-في مرحلة تشكيل المعرفة الذاتية- يصبحون أداة منسية، لكنها تكمن في المعرفة الباطنية، في البذرة الأولى التي لا تنفصل عن تكوين الفردية.

إنّ العلاقة مع تكويننا الأولي تتمظهر جليّة عند الوقوف أمام الحضارات التي شقت طريقها في الأرض، لكنها اندثرت مع بقاء نتاجها المعماري، والفكري، وحتى طرق حفظها للأغذية، والتخمير، كما في الحضارة الفرعونية وحضارة الأزتك والمايا، والحضارة الرومانية، كما في مدينة بومبي في إيطالية، والتي حفظها الرماد البركاني إلى يومنا هذا؛ حيث شكّل طبقة رماد صلبة على الأجساد الميتة، حافظًا بذلك أشكالها وانطباعاتها. حتى الخشب وصلنا من تحت الرماد محفوظًا! فلو وقفنا أمام النتاج البشري السابق، لوجدنا أنفسنا في حالة رهبة، مستدعين أصوات سكان المدينة وعمالها، وهم ينحتون، والمهندسين وهم يشرفون، حتى نستطيع استحضار أصوات الألم! وهذا نتاج التراكم المعرفي الذي وصلنا، ونتيجة عدم انفصال الإنسان عن نتاج أخيه الإنسان. وإن اندثرت هذه الحضارات، فقد قدّر لمعظمها الحفظ من خلال الكتابة، ولقد فكّت معظم الشيفرات اللغوية، وبالتالي اتضح الإبهام الذي كانت تحيا به، لكنّه بقي مبهمًا بالنسبة إلى تجاربنا، وفي الوقت نفسه، عاملًا في ارتقائنا بنسبة عظمى.

لا يمكننا إذًا، التعامل مع بدائية الإنسان ومع الحضارات على أنها حضارات فانية، أو بمعزل عنها، لكنها معرفة دخلت في تكوين معرفتنا الأولية عن إنساننا البدائي، وإنساننا المتطور، فمعظم ما فعله الإنسان الحالي هو سبر تاريخ البشرية، وبناء معرفة على نتاج هذا السبر، من خلال المشاهدة أو القراءة أو النقل الشفاهي. قد يكون معظمه كذبًا، لكن حتى الكذب راكم وعيًا معرفيًا باتجاه مسير معين؛ فأنتج ما نحن عليه الآن.

خلود شرف
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون