‘أيام قرطاج السينمائية: القاتل والمقتول’

2 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2017
9 minutes

إنّها لمفارقة مدهشة أن نعود في كلّ مرّة إلى مساءلة العلاقة بين المثّقف والسلطة السياسية الحاكمة، وكأنّ قدر هذه المسألة ألا تحلّ مطلقًا. وربما إن ننتبه قليلًا، فسيمكننا حسمها بشكل نهائيّ؛ إذ إنها تجد نشاطها ضمن معادلة خاطئة، تقول بضرورة ولاء المثّقف أو تعكير صفو الأنظمة، والخروج عن طاعة أيّ سلطة ما. بدلًا من ذلك يمكن القول: على الفنّ ألا يحارب السلطة، بل عليه محاربة أيّ رغبة في امتلاك السلطة ذاتها، هكذا ينجو من تفاهة انحطاطه أو يتخطّى تلك المعادلة التي تنفي عنه الانتماء إلى الأسئلة الكونيّة والإنسانية، بوصفه ضمير العالم وعنوان نقاء وجودنا السّرمدي، أو بوصفه وحده من يخترع المستقبل خارج نزاعات الرّاهن؛ حيث تدور رحاها حاليًّا، بين قوى لا مصلحة لها غير تشغيل سؤال الموت.

لقد أعلن المخرج السوري سامر عجوري انسحابه، من مهرجان أيام قرطاج السينمائية الذي ستقام فعالياته، من اليوم الرابع حتى حدود اليوم الحادي عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وقد كان مفترضًا أن تكون مشاركته، عبر فيلمه القصير (الولد والبحر)، أمّا سبب ذلك فعائد إلى رفضه مشاركة المخرج السوري جود سعيد الموالي لنظام الأسد، عبر فيلمه (مطر حمص)، وصرّح بالقول: “نظرًا إلى رفضي القاطع لسياسة المهرجان تلك؛ فإنّني أنسحب من قائمة المشاركين فيه والمدعوين إليه، كوني رافضًا أن يتمّ إدراج عملي في سياق واحد، تحت مسمّى الفن السينمائي مع عملٍ للنظام السوريّ من جهة، ومن جهة أخرى أعتذر عن المشاركة في مهرجان يستغلّ الفن، بهدف التطبيع السياسيّ مع المسؤول المباشر عن “دم حمص”.

يمكن قراءة خطاب “عجوري” من زاويتين: الأولى اتّهامه المهرجان بالتطبيع مع نظام بشّار الأسد، أمّا الثانية فهو يرفض أن يكون في الفضاء والمعادلة نفسيهما مع أحد أتباع ذلك النظام، وهذا خطاب ينمّ عن موقف سياسيّ بحت: وجد له سامر عجوري مبرّراته الفنّية، من حيث رفضه القاطع توظيف الفنّ في الشّأن السياسي، وتنشيطه كنوع من الدعاية لسياسات الأسد: نحن لا نختلف معه في أنّ هذا المدعوّ (بشّار الأسد) على رأس نظام دمويّ وفاشيّ، شرّد شعبه واستمدّ مشروعيته، من خلال اختراعه أسطورة محاربة الشرّ الإرهابي، علمًا أنّه ضالع في صناعته هو الآخر. أمّا أن نحاول تفكيك هذا الخطاب، فهذا يحيلنا إلى مسائل عديدة ومتنوّعة -سياسية وفكرية وفنّية- لقد تبنّى هذا المهرجان فيلمَ سامر عجوري، كما تبنّى فيلم جود سعيد وأفلامًا أخرى سوريّة، وهذا ما يقوّض الاتّهام القائم بالتطبيع وموالاة المهرجان أو مغازلته نظام الأسد، إلا إذا كانت ثمّة مصادر أخرى يعلمها هذا المخرج، ولم يصرّح بها بشكل علنيّ. في المقابل، إذا سلّمنا بالفرضيّة القائلة بضرورة تحرير الفنّ من كلّ توظيف سياسيّ -وفق ما ذهب إلى ذلك السينمائيّ سامر عجوري- فإنّ موقفه هو الآخر ينمّ عن رؤية فنّية، لا تجد نشاطها إلا من حيث بعدها السياسيّ؛ إذ هو الآخر -بهذا الشكل- يسجّل موقفًا سياسيًّا على حساب السينما.

كيف يمكن إذن قراءة هذا التناقض الصّارخ في موقف المخرج السوريّ سامر عجوري، دون السقوط في ذمّ مهرجان أيام قرطاج السينمائيّة أو مديحه؟

ندرك جيّدا أنّ حالة “ما بعد الحديث” التي أصابتنا بعد سيرة من الانفجارات الاجتماعية والثورية، أكّدت لنا -دون سابق إنذار- أفولَ جلّ السرديات والقيم الإنسانية، كما تمكّنت من جعل السوق يطال ما هو ثقافيّ، بما في ذلك الفنّ، إلا أنّها –للأسف- لم تخوّل له نفي تراتبيّة الذّوق، رغم محو ما يعرف بالاحتكار الفنّي، بجعله مُتاحًا للجميع، وبإزاء قحط حداثيّ كهذا؛ سيصبح من سديد القول أنّ أيّام قرطاج السينمائيّة تحوّلت من مهرجان للمقاومة إلى محض أسواق، تتكّدس فيها البضائع الفنّية بضرب من الشيئية، وهذا ما أكّدته دوراتها السابقة. ضمن هذا السياق يصبح ما يدعو إليه سامر عجوري أمرًا عبثيًّا، إذ سواء كان هذا المهرجان متعاطفًا مع نظام بشّار أم غير متعاطف؛ فإنّ ذلك لن يغيّر شيئًا من حيث سقوطه طريدة سهلة، بين أشداق السياسات الليبرالية التي أوقعته في معادلة البهرج الجمالي والرأسمالي.

مقابل ذلك، إذا تناولنا المسألة من جهة سياسية صرفة، ومن جهة وضعها في سياق النزاع الدائر في سورية، فإنّ سلوك المقاطعة الذي توخّاه سامر عجوري، سيحيلنا حتمًا إلى السلوك نفسه الذي تعتمده بعض التيّارات المعارضة، بما هي لا تتمثّل وجودها ومشروعية نشاطها إلا من خلال الرّفض لمجرّد الرّفض، وهو ما يجعله سلوكًا عدميًّا، بمعنى افتقاده لبدائل وتصورات واستراتيجيات، من شأنها تقويض الطرف الآخر وكنسه. ربّما يكون النظام السّوري قد نجح نتيجة فاشيته وجشعه المطلق (وهذا الأقرب في نظرنا)، في تجريد المعارضة من كلّ مقوّمات وجودها، فلم يتبقّ لها غير سياسات رفضه بإطلاق، رغم وهنها وضعفها. أمّا أن نطبّق هذه المعادلة على موقف سامر عجوري، فالأمر يبدو مختلفًا، فقد كان الأجدر عدم الانسحاب والمشاركة وفضح دمويّة الأسد وكلّ أتباعه، في المقابل كان يمكنه المراهنة على فيلمه فنّيًا وجماليًّا وفكريًّا، مقابل فيلم جود سعيد: هكذا يكون الفنّ وحده من يخترق المعادلة القائمة. لقد انسحب بمحض إرادته، إلا أنّ هذا الانسحاب لا يمكن أن يكسبه تعاطفًا جماهيريًّا، بقدر ما يقرّ بإحساسه بالهزيمة.

لا يمكن لمعادلة كهذه إلا الإفصاح عن حالة من العقم الفنّي، لقد تحوّل النزاع السياسي الحاليّ إلى ما يشبه القدر المطلق المسلّط علينا، حتى إنّنا تخلّينا عن مهمّاتنا كفنّانين؛ لنصبح مجرّد موظّفين لصالح البنوك السياسية. لا يكمن الإشكال الحقيقيّ الذي يريده الفنّ في تحديد موقفنا الحالي، بقدر ما يستمدّ مشروعيته من السؤال القائل: هل نحن فعلًا سينمائيون وفنّانون؟

لقد انزاح، إبّان الحربين العالميتين، (سلفادور دالي) و(لويس أراغون) عن السوريالية، حيث التحق الأوّل بهمجيّة (الجنرال فرانكو) وفاشيته، بينما التحق الثاني بمؤتمر (خاركوف) الستاليني، ومن ثمّة ظلّ (أندريه بروتون) متمسّكًا بالطابع التروتسكي، لكنّ أحدًا -إلى اليوم- لا يمكن أن يتجرّأ على شطب صفة المبدع عن هؤلاء جميعًا، وعليه نحن الآن نشرّع للسؤال الآتي:

هل سامر عجوري الرافض لنظام الأسد ودمويته القميئة، و(جود سعيد) المتّهم بالولاء والطاعة والخيانة، في قيمة أولئك الفنّانين الكبار، ممّن ينتجون أعمالًا سينمائية كبيرة وخالدة؟ وهل أنّ مشاركتهما في أيّام قرطاج السينمائيّة يمكنها التأثير على المنظور الفنّي والجمالي للسينما، والحال أن هذه الدورة للمهرجان قد تكون مثل سابقتها من الدورات؟

ليس ثمّة ضحيّة إلا الفنّ السينمائي ذاته، وليس ثمّة -أيضًا- إلا لعنة ستظلّ تطارد بشّار الأسد على الدوام، بوصفه لا يمثّل إلا سلطة رجعية وفاشية، لم تنتج غير ثقافة الهزيمة والانحطاط الحضاري، ومعارك لا هدف منها غير كسر الأشداق: لقد نجح فعلًا في بناء مستقبل سورية، عبر سياسات المشي إلى الخلف.

حاتم محمودي
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون