الوظيفة الحكومية في سورية.. مكان تصفية الحسابات



“الحفاظ على مؤسسات الدولة” عبارة تتردد دائمًا، لدى موالي النظام، عند توجيه أي نقد له، إنها العبارة الأكثر استخدامًا، بعد عبارة مكافحة الإرهاب. وبالنظر إلى واقع المؤسسات الحكومية كيف أصبح؛ لن ترى أن هناك من يحافظ عليها، بل على العكس تمامًا فهي في تراجع ملفت للنظر.

كان الحصول على وظيفة، بالنسبة إلى المواطن السوري، يعد أمرًا مهمًا، يُبذل في سبيله الكثير، لأنها كانت تعين الشخص على تسيير شؤونه المعيشية بالحد الأدنى، وهو يعلم مسبقًا أنها لن تساعده في بناء منزل أو تحقيق أي من أحلامه أو نقله من حالة معيشية إلى أخرى، لكنها -كما يقول المثل الشعبي السوري- (حجرة تسند حيط).

أما اليوم، بعد الثورة وحروب النظام، فقد انقلبت الأمور؛ وأصبح الذهاب إلى الوظيفة، في أغلب مراكز العمل الحكومي -إن لم نقل في كافة- بمثابة العقوبة التي لا فرار منها إلا بإنهائها، بأي ذريعة أو وسيلة، لذلك فقد عمد كثير من العاملين إلى إنهاء خدماتهم وتقديم استقالاتهم، التي هي السبيل الوحيدة للخلاص من العقوبة غير المعروفة مسبقًا، فقد تكون الاعتقالَ بسبب تقرير أمني كيدي، أو الفصلَ المفاجئ من الوظيفة أيضًا بتقارير أمنيّة.

أحد الموظفين المستقيلين من إحدى المؤسسات الحكومية في مدينة حماة، عبّر عن ذلك، بقوله: “منذ فترة اعتُقلت مدة عشرة أيام، بسبب تقرير أمني كيدي، ثم أطلِق سراحي، ولو استمريت خمسة عشر يومًا في المعتقل؛ لفصلت من الوظيفة، وضاعت خمسة وعشرون سنة من خدمتي، أما بتقديم استقالتي؛ فأكون قد حصلت على راتب تقاعدي، يكفي لشراء خبز العائلة اليومي، يبقى هذا أفضل من الفصل التعسفي، كما حصل لبعض أصدقائي”.

أضحت المؤسسات والدوائر الحكومية تعجّ بمن هب ودبّ، من أناس لا يمتلكون الخبرة أو المعرفة بحدها الأدنى في مجال العمل الموكل إليهم، إضافة إلى زج عناصر الأمن في هذه المؤسسات والمراكز، وجعلهم كحارس السجن الذي لا يستطيع أحد التنفس في حضرته. وحسب قول موظفة في إحدى الدوائر الحكومية، في مدينة حماة: (الله وكيلك، كأننا بفرع أمن) ففي هذه الدائرة، يوجد مندوبون لكافة الأفرع الأمنية؛ ما يؤدي إلى مضايقات تطال الموظفين كافة، أيًّا كانت مكانة الموظف أو مرتبته العلمية، هذه المضايقات تبدأ بالتشبيح اللفظي، وتنتهي بكتابة التقارير الأمنية التي توصل الموظف الحكومي إلى مكانٍ لا أحدَ يرغب فيه قطعًا. لذلك كثر تقديم الاستقالات، وتفضيل البقاء في المنازل أو البحث عن مجال عمل بعيد كليًّا عن المراكز الحكومية.

هذه الاستقالات التي قُدّمت -وما تزال- تشملُ فئة من العاملين في الدوائر الحكومية، ممن يمتلكون الخبرة في مجال عملهم، ولا رغبة حقيقية لديهم في إنهاء الخدمة إلا أنهم مجبرون، إذ لم يعودوا قادرين على احتمال وضع لا يطاق، منهم من يفكر بأن يحصل على تعويضه، ليعمل في مجال خاص، ومنهم من يسعى لتأمين جزء من تكاليف سفرٍ، يبعده ليس عن العمل وحسب، إنما عن وطنه بأكمله. مديرة إحدى المدارس في مدينة حماة، قالت لـ (جيرون): تلقيت هذا العام عشر استقالات من المعلمات في مدرستي، تقول إحدى المعلمات عن سبب الاستقالة: بعد خدمة أكثر من عشرين عامًا؛ يتم إرسال معلمة (شبيحة) -كما وصفتها- لم يمض على تعيينها سوى أيام، وبعد بضعة دروس، ترفض الدخول إلى الصف، وتقول (أريد عملًا إداريًا، لن أدخل الصف، مرة ثانية)، وطبعًا ليس من الصعب توفير هذا العمل لها، وإبقائنا نحن داخل الصفوف. على العكس تمامًا من الفئة الجديدة التي وظفت حديثًا، وهم في أغلبهم من أبناء ما يسمى بـ “شهداء الجيش” والميليشيات العسكرية الموالية، أو ممن يمتلكون (واسطة)، أوصلتهم إلى العمل، إضافة إلى فئة جديدة، وهي من أولئك الذين (اشتروا) الوظيفة، وهذا بعد ظهور أشخاص، بشكل شبه علني، قادرين على تأمين عملٍ لمن يرغب، ولكن بعد أن يدفع الراغب في العمل مبلغًا من المال (رشوة) المتفق عليه مسبقًا، وأغلب الأشخاص في هذه الفئة يمتلكون مؤهلًا علميًا، ولكن مجال العمل المؤمن لهم لا يتعلق أو يتطلب مؤهلهم العلمي، لذلك فهم يعملون في مجال آخر بعيد كلّ البعد من اختصاصهم، ويكونون غير قادرين على إدارة شؤون العمل الموكل إليهم، وهذا ما يزيد واقع المؤسسات الحكومية سوءًا.

ما قدّمناه آنفًا تفصيلٌ واحدٌ، مما يحدث في بعض الدوائر الحكومية التابعة لمؤسسات الدولة، والتي يدّعي الموالون القلقَ تجاهها والاهتمام بالمحافظة عليها، وعلى هذه الشاكلة، تدار بقية شؤون الدولة التي تسير باتجاه الحضيض، فلا عتب على أولئك الذين قرروا الابتعاد والنجاة بأنفسهم، من واقعٍ فُرض عليهم لا يستطيعون مواجهته.


زين الأحمد


المصدر
جيرون