on
انسياق الحكم اللبناني إلى المحور الإيراني
لم يعد لبنان أرض مهادنة بين قوى دولية وإقليمية، أصبح دولة يمكن أن تتحارب هذه القوى فوق أرضها. الموقف السعودي يرفع الغطاء العربي عن لبنان: فأي حكومة تضم وزراء من «حزب الله» هي حكومة حرب على المملكة، طالما أن هذا «الحزب» ينفّذ سياسات إيرانية مدمّرة للعديد من الدول العربية ومعادية بشكل خاص للسعودية. قد يكون صغر البلد أغرى الإيرانيين، ولكنهم لم يقرأوا تاريخه، فعلى الدوام كان الاستحواذ عليه سهلاً، وعلى الدوام كان وبالاً على مَن يستحوذ عليه، طال الزمن أم قصر. آخر الأمثلة خبره النظام السوري على مدى ثلاثين عاماً، وكانت جيرته المباشرة عنصراً لمصلحته، ثم إن طهران استغلّت حلفها معه واصطنعت حزبها/ ميليشياها ليكون من أدوات دمشق، وليكون خصوصاً في خدمة مشروعها لتوسيع نفوذها.
وما هو هذا النفوذ؟ إنه أولاً أدلجة عقائدية سياسية- دينية تتبعها الدولة وترعاها، ولا تختلف بآليات عملها عن سواها من الأدلجات المعروفة لدى تيارات ما يسمّى الإسلام السياسي/ «الإخواني». جرى تطويع الدين في شحن طائفي ومذهبي وعسكرة لبعض الطائفة (وهي الشيعية في الحال الإيرانية) وتجنيد وتسليح لميليشيات، فضلاً عن اختراق للنسيج الاجتماعي حيثما بدا ذلك ممكناً (لبنان أولاً، ثم العراق واليمن وسوريا، بالإضافة إلى باكستان وأفغانستان)، وكذلك تهميش الجيوش الوطنية (لبنان) وإضعافها (سوريا) والعمل على انهيارها (العراق واليمن) حين تسنح الفرصة سواء بغزو أميركي للعراق أو بانتفاضة شعبية في سوريا أو بانقلاب على الشرعية في اليمن. وما الهدف من هذا النفوذ؟ تطويع الطوائف الأخرى، وإبقاء مجتمعات الدول المخترقة في صراعات دائمة، تكون فيها الغلبة لمن يحمل السلاح وللأكثر استعداداً لتقويض المؤسسات وتدمير الاقتصاد ونسف أسس التعايش وأعرافه. وحين يتعذّر التطويع رغم إرهاب الميليشيات العاملة بـ «تكليف جهادي»، تأتي المرحلة التالية من الاختراق التي كان «الإرهاب الداعشي» أحد نماذجها الذي حقّق لإيران «إنجازاً» ربما لم تخطّط له: تدمير كل الحواضر والمدن التي شكّلت عماد «اقتصاد السُّنة» فلا تقوم لهم قائمة في المدى الزمني المنظور.
كانت هناك فرصة في لبنان أو هكذا بدا الأمر قبل نحو عام، حين تمّت «تسوية» ارتضت السعودية أن يعقدها حليفها سعد الحريري مع حليف «حزب الله» ميشال عون، وعلى أساسها انتخب الأخير رئيساً لجمهورية بقيت عامين ونصف العام من دون رئيس. وكان لـ «التسوية» حينئذ ما يبرّرها، لأن استمرار الفراغ الرئاسي (بسبب إصرار حزب إيران على عون مرشحاً وحيداً) كاد ينذر أواخر 2016 بانهيار أخير للدولة (لا رئيس ولا برلمان وحكومة مشلولة بخلافات أعضائها)، أي أنه كاد يقود إلى وضع فوضوي لا يستفيد منه سوى إيران وحزبها. وجب إذن استدراك هذا الاستحقاق الخطير، ولو بتنازلات يقدّمها الحريري آملاً أن يعمل عون بالتزامات الرئيس ويتخفّف من التزامات عون المرشّح الحليف لـ «الحزب». كان ذلك رهاناً ومجازفة لم يستطيعا الصمود، فسرعان ما تبيّن أن الرئاسة رهينة الحليفَين، حتى أن الرئيس ساهم وهو القائد الأعلى للجيش في تهميش هذا الجيش لمصلحة الحزب وسلاحه خارج سلطة الدولة، أما حكومة الحريري فتعامل معها الحليفان كمجرد غطاء لـ «شرعنة» انتهاكاتهما للدولة ومؤسساتها، فضلاً عن مصادرتهما لسياستها الخارجية.
ولذلك لم يثر المضمون السياسي لاستقالة الحريري استغراباً، فـ«التسوية» التي عقدها مع عون تآكلت، وكان الحليفان يعوّلان عليها لتغطية إدارتهما لأي تطوّر إقليمي (مواجهة مع إسرائيل مثلاً). ولذلك، أيضاً، كان لا بدّ أن تسحب السعودية دعمها لتلك «التسوية» لأنها لم تتوصّل إلى تأمين حياد إقليمي للبنان، بل على العكس، مضى الثنائي عون- نصرالله بعيداً في دفعه إلى المحور الإيراني على رغم معارضة أكثر من نصف الشعب اللبناني. وحتى بعد الاستقالة، لم يبدِ عون وفريقه السياسي أي وعي لخطورة الأزمة، ولا أي استعداد للبحث في ما سلّط الحريري الضوء عليه في خطاب الاستقالة، سواء في شأن تدخّلات إيران وحزبها المستقوي بسلاحه على الدولة وعلى اللبنانيين، وبالأخص جرائم هذا «الحزب» في سوريا وبلدان عربية عدة. ولا يعني ذلك سوى أن الحكم اللبناني، ممثلاً بالرئيس، لا يريد أو لا يستطيع مواجهة أسس الأزمة ليجد لها حلولاً وطنية، بل يفضّل الانسياق في نهج حليفه «حزب الله» الذي يعتبر استقالة الحريري دليلاً إلى نجاح آخر يحققه المشروع الإيراني.
(*) كاتب لبناني
الاتحاد
المصدر
جيرون