نحو مسرح كارثي



ماذا بوسع الفن المسرحي أن يقدّم لشعوبنا الآن؟

من إيلان الكردي إلى مليون طفلٍ سوريٍّ فقَد أحد والديه أو كليهما، ومن حراثة الموت وتخصيب أرضه بالجثث الآدمية في سورية، إلى بيع العبيد في ليبيا، ومن جشع السرديات الصحراوية وأكلها لحوم البشر، إلى طاعونٍ يضرب أطفال اليمن ووباءٍ يدمّر بلدًا بأكمله، ومن أسر الإله على ظهور الصواريخ إلى بيع النساء واغتصاب القاصرات، ومن صحوة البربرية والتوحش، إلى شر الدكتاتوريات المعاصرة التي تتلذذ بالتنكيل بشعوبها، ومن تصدير العجز وتشغيل القيامة، إلى تصدير الابتذال السياسي والفكري والإعلامي، ومن قتل الفلاسفة والشعراء والمفكرين إلى تفاهة رثائهم في الجنائز، ومن تبذير الشهداء بالمجان إلى المتاجرة بأسمائهم في محافل الكرنفالات الانتخابية، ومن تفقير البؤساء إلى ردمهم في السجون.

ماذا بوسع الفن المسرحي أن يقدم لشعوبنا الآن؟

مدن من رماد ذهبت وئيدًا في الخراب، طوابير من البشر تشق الصحراء الأفريقية؛ فتباع في المزاد العلني في الأسواق، مئات من الرجالات يفتح لهم البحر أشداقه ويبتلعهم بالكامل، هويات بلا ذاكرة تمخر عباب التاريخ دون جدوى، سُحب من الأدخنة وبروق لامعة من رصاص وشظايا، شوارع تُلْقَى فوقها أكداس من اللحوم البشرية، وذباب أزرق يحوم حولها، مستودعات سرية وأخرى علنية لتخزين أكباد وقلوب، وأعضاء أخرى آدمية معدة للتصدير، أبراج متداعية تمّ لحمها بأمعاء الخيل وشرايين الأطفال، أحذية عسكرية تمحق رؤوس قتلاها، لترفع على أثرها الحناجر نشيدًا وطنيًا، مصانع للسلاح وأخرى لتسميم الأدوية كي تفرق بعد ذلك بالمجان في حملات الإغاثة، مخيمات نجت من القصف، فوقعت تحت وابل الصقيع، أنين ثكالى تأخذه الريح إلى جهة الجبال، عالم يوزع خرائطه بين أشداق حراس الجحيم.

ماذا بوسع الفن المسرحي أن يقدم لشعوبنا الآن؟

“قاتل يدلي بالسكين”، ومسرحي هناك يزور المجزرة، يتباهى بإشعال الشموع وبذر الورد، قاتل يدلي بنهمه إلى الدم، ومسرحي هناك على الركح، يستثمر ذلك الدم كي تقدم له الدكتاتوريات دعمًا لأعماله، قاتل يمزق أوصال تاريخ بأكمله، ومسرحي هناك يلطم خديه مثل “رَبّاتِ الحِدادِ البَواكِيا”، خوفًا على التاريخ، قاتل يوقف الزمن في صورة طفلٍ تدهسه دبابة، ومسرحي هناك يعلق الصورة ذاتها خلف الركح، قاتل ينتحل السرديات المقدسة ويحتكر الآلهة، ومسرحي هناك ينتحل أقوال الغابرين ليحتكر أنوار الغابرين، قاتل أصولي وظلامي يحتكم في قتله إلى التكنولوجيا الحديثة، ومسرحي هناك، حداثي وعلماني، يحتكم في مسرحه إلى شتم وثلب ابن تيمية والطبري وغيرهما من ثقافة الماضويين، قاتل يترجم عودته إلى الشر باسم الدولة الحديثة، ومسرحي هناك يترجم شره ضد السهروردي والفردوسي والغزالي.

ماذا بوسع الفن المسرحي أن يقدم لشعوبنا الآن؟

إن ما يدعو إليه المسرحي الآن هو وقوفه وقفةً رعناء في وجه الثقافة الظلامية، دفاعًا عن مدنية الدولة الحديثة، ولكن أي مدنية هذه التي انتقلت -على المستوى الفكري والسياسي- من وعدٍ يقول بالعقل التنويري إلى حقيقة تقول بعقل أداتي ونفعي؟ أي مدنية هذه التي يتكلم باسمها المجرمون والدكتاتوريون واللصوص والقتلة، ويدافع عنها رهط من المتملقين والمتحذلقين من كل صنف؟ أي مدنية هذه التي حين وجدت نفسها قاب قوسين من السقوط، اخترعت أعداء لها من الإرهابيين والدمويين؟ أي مدنية هذه التي تخترع الموت كي تحاربه -فيما بعد- وتصدّر نفسها أيقونة للخلاص الإنساني وضرورة ملحة؟

ما يدعو إليه المسرحي أيضًا، هو وقوفه دفاعًا عن الفن في أزمنة نزاع الأصوليات، ولكن أي فن هذا الذي يستثمر ذلك النزاع لصالحه؟ أي فن هذا الذي يشغل الانتحال، ويهدف في كل مرة إلى تكريس السائد من الجماليات الكلاسيكية؟ أي فن هذا الذي يجعلنا لا نفرق بين ما إذا كان ذلك المسرحي مسرحيًا فعلًا أم أنه تاجرٌ انتحل تلك الصفة لا غير؟ أي فن هذا الذي ينتسب إلى قضايا وهمية، وينسى الجراحات التي ألحقتها الكارثة بخصوصيتنا كآدميين؟ أي فن هذا الذي يعجز عن تفكيك الراهن في مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية؟ أي فن هذا الذي يخبط في أودية دهماء؟

ماذا بوسع الفن المسرحي أن يقدم لشعوبنا الآن؟

ثمة سوء استنطاق للكارثة، وثمة مواجهة لا مقاومة، وثمة قحط فكري، وثمة تخاذل أيديولوجي، وثمة انحطاط أخلاقي! ثمة أيضًا لامبالاة وقحة وفي غاية الصفاقة: خضوع لمنطق السوق وتبضيع الفن وزجه عند حدوده التجارية، ليسوا مسرحيين، بقدر ما هم “بروليتاريا” رثة تمتهن المسرح، وليس ثمة مسرح، بقدر ما هي أعمال تدّعي انتسابها إلى هذا الفن، وليس ثمة أعمال مسرحية، بقدر ما هي حملات تبشيرية، لفكرة سياسية شاذة وقميئة، يدلي بها ممثلون على الأركاح، وليس ثمة ممثلون بقدر ما هم ذوي احتياجات خصوصية، همهم الوحيد انتهاء العرض كيفما كان مقابل مبلغ زهيد، لا يكفي حتى لإيجار رقعة جغرافية لقبر محدود الوقت.

ماذا بوسع المسرح أن يقدم لشعوبنا الآن؟

ثمة ضرورة ملحة لإعادة كتابة التاريخ، وثمة ضرورة ملحة لتفكيك كل هذا الالتباس والتعقيد، وضرورة ملحة لإدانة راهن العالم، واستنطاق المستقبل. ثمة -أيضًا- وعي مرضي يجب أن يكون تجاوزيًا، ورهانات علمية وتقنية وأخرى فكرية وفلسفية عليها أن تخرج من حلبة الحياد، وولاء فكري يجب أن يتحول إلى عصيان أنطولوجي وثوري. فالمسرحيون هم أبناء جديون للتاريخ، هم أول الشعراء الذين كتبوا محن البشرية على الأرض، وهم أول المحاربين الذين رفضوا جدب السماء، وحرضوا على الخصب منذ أزمنة الجدب العظيم.

إنهم يختلفون كثيرًا عن رجالات السياسة، لأنهم وحدهم من يرفض جلوس التاريخ على حافة الزمن، كي يطالب بنهايته، هم بناة المستقبل، وهم من يعيد رتق الجراح. هم الطاقة الترميزية الأكبر التي يخافها أعداء الحياة، وهم القوة التي تشرع لنهاية القدر، كي يصنع الإنسان -بدلًا منه- قدره الخاص، هم وحدهم من يمثل تلك الرغبة الجامحة في اقتلاع حب الحياة من بين مخالب الكارثة.

ماذا بوسع الفن المسرحي أن يقدم لشعوبنا الآن؟

صار يكفي عدم الانتماء إلى فاجعة، أن ندير ظهورنا للكارثة! يكفي بلاهة وجود المسرحيين، ويكفي ألا يختلط دم المسرحي بدم الملة، وألا ينتج ذلك الاختلاط وردة المستحيل.

ليكن ثمة مسرح كارثي مثل طوفان نوح، يجرف كل هذه المهزلة البشرية، مسرح شاهق في الرفض، في حجم هذا البشاعة التي نعيش، وليكن ثمة مسرح أكثر شراسة من تلك البربرية، وأكثر فاشية من النازيين الجدد، ومن الحداثيين الجدد، مسرح يجدد العالم بدفن الكارثة، تحت وقع كارثة أضخم وأكثر وطأة، مسرح مثل القارعة، يوم يكون الطغاة “كالفراش المبثوث”.


حاتم محمودي


المصدر
جيرون