هل تستطيع إيران محوَ معالم “دمشق”؟



ما تزال ذاكراتي تغصّ بتلك الأيام التي اشتدّ فيها مرض عمتي؛ بعد أن قرّر أبناؤها بيعَ منزلها الكائن في حي (العقيبة)، في دمشق القديمة، قبل نحو 10 أعوام، لتحسين أحوالهم المادية، ولأن عمتي لم تعد قادرة على رعاية المنزل والاهتمام به والقيام بأعبائه. وأتذكر كيف أن عمتي استغرقتْ وقتًا طويلًا لتَتماثل للشفاء، مما ألمّ بها حزنًا على فراق بيتها. كنتُ أحظى بزياراتٍ عائلية قليلة إلى ذلك البيت (العربي)؛ حيث كان يفيضُ على من فيه بكل أنواع الجمال، أما الحي فكان لوحة بديعة في عمرانه، وتمازجه السكاني.

بعد مرور سنوات من عبث النظام بالعاصمة، ووهبِها لميليشيات طائفية استباحتها؛ تعجز المخيّلة عن تصوّر أناسٍ ليسوا دمشقيين يحتلّون بيوت دمشق القديمة، وتأبى النفس تصديقَ الخراب الذي لحق بهندستها وعمرانها، فكيف يمكن أن تكون دمشق مجرّدة من أهلها!

تؤكد معلومات واردة من أهالي دمشق أن ميليشيات إيرانية، وأخرى متعددة الجنسيات، بدأت تستولي على قسمٍ كبير، من بيوت العاصمة الواقعة قي الأحياء القديمة، والمُسجّلة على لائحة التراث العالمي لمنظمة (يونسكو)، ويقوم السكان الجدد بتغييرات جوهرية داخل هذه البيوت. وتشير تقارير صحافية إلى أن الإيرانيين والعراقيين، وغيرهم من الجنسيات المؤازرة للنظام، باتوا يشكلون مشهدًا واضحًا في دمشق، ويتجولون في شوارعها القديمة والحديثة، مُحدثين تغييرًا واضحًا في التكوين السوري.

تُرجع دراسات وأبحاث مُختصة بالشأن السوري هذا التغييرَ الديموغرافي إلى بدايات الثورة؛ إذ خطّط النظام، منذ آذار/ مارس 2011، لتفريغ مناطق جغرافية مُحدّدة من سكانها الأصليين، لتأسيس دويلة طائفية، وتأتي دمشق في المرتبة الأولى لتطلعاته بهذا التغيير.

في هذا الشأن، قال محمد عبد المجيد، وهو باحث في مركز الدراسات الإيرانية في أنقرة (إيرام)، لـ (جيرون): “تلتقي مصالح النظام مع إيران بتغيير معالم دمشق وتراثها الحضاري، والحقيقة أن النظام الذي يُفترض أنه المسؤول عن حماية دمشق وتراثها، هو مَنْ يعبث بها، ويقدمها لإيران وميليشياتها الطائفية لتغيير معالمها، ولا سيّما أن رأس النظام تحدّث عن مجتمعٍ أكثر تجانسًا بسبب الحرب. ويساعد النظامَ في عمله هذا المجتمعُ الدولي، بما فيه منظمة (يونسكو) التي تغضّ الطرف عن ممارسات نظام الأسد وإيران بتغيير ملامح دمشق، ولا يعلو صوتها بضرورة الحفاظ على التراث الحضاري إلا حين يكون في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد”.

يأخذ التغيير الديموغرافي في دمشق منحيين: التخلّص من الأهالي الأصليين، وتبديل النمط المعماري، وبذلك؛ يتم طمس معالم المدينة كليًا. في هذا الصدد، قال عبد المجيد: “في الماضي، كان ترميم المنازل والممتلكات الواقعة في دمشق القديمة، والمسجلة على لوائح التراث العالمي لمنظمة (يونسكو)، ممنوعًا دون الحصول على موافقةِ ما يُعرف باسم مكتب (عنبر)، لكن الحال تغيّر اليوم؛ حيث يقوم المستوطنون الجدد بتغيير ملامح هذه العقارات ومعالمها، حتى إن بعض البيوت القديمة هدُمت وأقيمت مكانها أبنية طابقية”.

عن الضغوط التي تُمارَس على أصحاب البيوت الدمشقية القديمة، من المسلمين السنة والمسيحيين، لبيع منازلهم، أوضح عبد المجيد: “تحاول إيران، عبر سماسرة ودلالين، الاستيلاء على دمشق، ولا سيما دمشق القديمة، وذلك عن طريق الترغيب والترهيب، حيث قامت بشراء عقارات كثيرة في عدد من الأحياء الدمشقية، ومنها ركن الدين، حي العمارة، حي الشاغور، شارع مدحت باشا، وباب توما، إضافة إلى الكثير من العقارات الواقعة في منطقة (البحصة)، حول المركز الثقافي الإيراني. وتلعب الظروف المادية القاسية التي تواجه السوريين دورًا في تسهيل هذه العملية، إذ يضطر بعض الدمشقيين إلى بيع ممتلكاتهم نتيجة الحاجة إلى المال، خصوصًا أن إيران تدفع مبالغ مغرية، مقابل الحصول على العقارات الواقعة في دمشق القديمة. وإذا رفض الأهالي بيع ممتلكاتهم؛ لجأت إيران إلى الضغط عليهم عبر طرق مختلفة، منها حرق هذه الممتلكات، عبر حوادث مصطنعة لإجبارهم على بيعها، أو اعتقال أبنائهم، أو تعريضهم لضغوط قد تصل إلى اتهامهم بإيواء إرهابيين في منازلهم. وفي كثير من الأحيان، يتم الاستيلاء على الممتلكات دون معرفة أصحابها الذين غادروا سورية وتركوا ممتلكاتهم، بخاصة أن النظام قد أصدر تشريعات تسهّل عملية استيلاء الدولة على هذا النوع من الممتلكات”.

أضاف: “لا بدّ من التأكيد على أن النظام متواطئ مع إيران لتغيير معالم دمشق، حيث تمنع أجهزة الأمن التابعة للنظام تأجيرَ أو بيع أو شراء أي منزل في دمشق إلا بموافقة أمنية. وعليه تُقدّم التسهيلات كافة لعمليات البيع لصالح إيران ووكلائها”.

حول إمكانية ضلوع إيران ومعها النظام بمحوِ ملامح دمشق القديمة التراثية الهندسية والجغرافية بشكل جذري، أوضح عبد المجيد: “صحيحٌ أن من الصعب تغيير ملامح دمشق القديمة كليًا، لكن إطالة أمد الحرب توفّر الفرصة لإيران والنظام، لإجراء أكبر تغيير ممكن في معالمها، ومن المؤسف القول إن الأمور لن تعود إلى سابق عهدها، حتى بعد الحل السياسي، ولا سيما أن إيران تسعى إلى شرعنة وجودها عبر استملاك هذه العقارات بشكل رسمي، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أم عبر وسطاء”.

عدّ عبد المجيد أن مسؤولية حماية الإرث الحضاري الدمشقي ما تزال قائمة، وتقع على عاتق كل من يستطيع نقل الصورة الحقّة، وأردف في هذا الخصوص: “على الرغم من أن المجتمع الدولي صمّ أذنيه عن سماع مناشدات المعارضة السورية ومنظمات المجتمع المدني، بضرورة الحفاظ على التراث السوري والدمشقي؛ لا ينبغي التوقف عن توثيق الانتهاكات بحق دمشق القديمة ومحاولة إيصال هذه الممارسات إلى المنظمات الدولية المعنية”.


آلاء عوض


المصدر
جيرون