(موسم الفوضى)
30 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2017
إن رواية (موسم الفوضى)، لــ وول سوينكا، تفرض على القارئ نوعًا من المشاعر المتناقضة، إزاء ما يجري من أحداث متشابهة، في جميع أنحاء العالم الثالث؛ إذ تميل إلى الواقعية، بكافة مفرداتها وتفصيلاتها لما تعكسه من متناقضات في دواخلنا، بين الأمل من التحرر من العبودية لبناء مجتمع جديد، وممارسات أيدي الاستعمار التي زرعها بعد رحيلها، من خلال حكام دكتاتوريين ومنظومات دينية موجهة، فمرة نجدنا نركن إلى العطف، إزاء هذا الاستغلال الواقع على أبناء تلك المنطقة، ومرة ثانية نشعر بالفرح مع ثورة الأهالي على واقعهم، واعتمادهم على المشاعية والاستقلالية حتى عن الدولة.
في هذه الرواية، جمع (وول سوينكا) كل مقومات الحياة، عند هذا المجتمع البسيط، لذلك نجده ركز على إبراز جانب الطقوس والعادات الخاصة بأبناء تلك المنطقة، في سبيل التمسك أكثر في أرضهم وحياتهم ومستقبلهم. فيتناول وول سوينكا صورة نيجيريا ما بعد الاستقلال، من مستويين: واقعي ورمزي.
إن شخصية “أوفي” الروائية المنتقدة لكل حركة يقوم بها الجيل المتحرك، في مجتمعٍ لا واعٍ، الذي اكتسب خبراته من الخارج، يعود إلى بلده، ليجد رائحة العفونة قد طغت على كل شيء، هي رمز صارخ للمقاومة والإخلاص، ومن ثم محاولة للخلاص، فالأسى والاستسلام، حين يطغيان على مكان كهذا في حالة الأزمة، يمكن أن يصبحا قاتلين ببطء، وعلى ما يبدو فإن هذا الجيل قد ولد ليعيش أزمة طويلة.
رمزية الفوضى بين مجداف الأمل وقسوة الواقع:
تستمد فكرة الرواية أصالتها من خصوصية نيجيريا، كبلد زراعي مزقته العبودية بأشكالها كافة؛ فوجب على كهنته توفير زراعة جديدة للشعب من البذرة حتى الغرسة، ثم الشجرة فالثمرة.
تم اختيار بلدة (آييرو) كحاضن مثالي للبذور؛ لأن أهلها يؤمنون بالذاكرة، ويعيشون حياة طيبة قوامها التناغم والوئام. أما مناهضة الرجل الأبيض والعبودية، فكانت المبرر الأساس للعودة إلى دين الأجداد، “وتأسيس دين الحبوب الذي يعدّ شكلًا من أشكال العيش. فالحبوب لا تعني التغذية فقط بل التكاثر”(1) ص30، وعلى الحبوب أن تجد أرضًا جديدة، تبذر فيها وإلا؛ فستضمر وتموت.
كان إيجاد الأرض الجديدة يقع على عاتق الوافد الغريب “أوفي”، مبعوث الكارتل الدعائي إلى بلدة (آييرو)، لتوسيع زراعة الكاكاو، فيوظف “أوفي” إبداعه في تأليف الأغاني الوجدانية المغلفة بمدائح “لون الكاكاو”، لتفعيل العمل، وبعث رمزية هذه البلدة (الآييرو) في أرجاء البلاد كله، فتكون مثالًا يُحتذى.
في هذا المكان الذي يؤمن بالمشاعية ودين الحبوب، ويدين أهله للبحر والأرض، قد رسخ لديهم هذا الإيمان تمامًا، ومن الصعب كسر قناعات أهله وتطويرها، فهم مدينون بأفكار من الصعب اختراقها: (نحن لدينا احتفالاتنا الخاصة، ولدينا طقوس محددة، كما أننا نحن -الفلاحين وصيادي السمك- نعرف أيضًا ما ندين به للأرض والبحر، وحين يموت كبير من كبارنا، مؤسسٌ مثلًا، فإننا نقدم له فروض الطاعة والولاء، وإذا أردنا أن نضيّع سنة كاملة من أجل دفنه؛ فإن ذلك أقل ما يستحق) ص13.
ثم نجد استخدام “أوفي” لــ (جهاز الكارتل) الدعائي القوي في تكريس نموذج بلدة الآييرو المثالي في العيش، والهدف من ذلك استعادة الشبان المهاجرين، وملء الفراغ في تراثهم المنتقل إليهم بفضل نبتة الكاكاو. لكن جواسيس الكارتل اشتمّوا رائحة التغيير والتمرد عند “أوفي”؛ فاكتسحت أصابع مجهولة مشغله، ليرسل في رحلة دراسية، يفترض أن يعقبها رحيل نهائي، محاولين خلق العبث والفوضى في نفوس من كانت معتقداتهم أقوى من قسوة الواقع والتهميش.
كل هذه الفوضى التي حاول أن يخلقها (وول سوينكا) في روايته ما هي إلا تعبير عن انكسار موجة الأمل العظيم التي رافقت الاستقلال، وتتبنى موقفًا نقديًا بل هجوميًا من القائمين على السلطة.
حين استلمت السلطة طبقة جديدة، أخذت تنهب وتقمع وتخرب في كل الاتجاهات، بما في ذلك إثارة الفتن الطائفية والقبلية وإغراق البلاد في دماء مذابح جماعية. ولتمكين الشعب من جذوره في هذه الأرض، نجد أن الروائي استعمل طقوس الأرض في تقسيم روايته، فبعد القسم الأول من الرواية، وهو (البذار)، ندخل في القسم الثاني وهو (مرحلة البراعم)، تكتمل فيها مشاهد النمو للثورة في أثناء حفلة موسيقية خاصة تنتمي إلى طقوس وعادات أبناء تلك المنطقة، يحييها البطل (أوفي) وفرقته.
طقس الولادة والانبعاث كان حاضرًا، على الرغم من كل هذه القسوة، فنجد أن الكاتب كان حريصًا على خلق هذه الطقوس المميزة، ليطلق الأمل المحبوس في دواخل أبناء تلك المنطقة، وهذا ما يبينه الحوار الذي دار بين “أوفي” والعجوز “أوهيم”: (لا تبحث عن رفيقتك، قال العجوز، فهي تعلم الإصغاء إلى خفقات قلب هذه الأرض التي هي أرضنا). ص10
نعم، جعل الأرض مركزًا للخصوبة، فكانت طقسًا يُحتفى به للتعبير عن الالتصاق والتوحد، فمن خلالها يتم التكاثر والتجدد، وهذا ما بيّنه حوار سابق بينهما. (إن الحبوب لا تعني التغذية فقط، بل تعني التكاثر) ص9، العجوز أوهيم يريد أن يقول: لا يمكن كسر إرادة هذا الشعب، عندما يلتحم بأرضه ويمارس طقوس أجداده بالمحافظة على خصوبة هذا المجتمع.
حاول سوينكا أن يجدد الأمل في روح قارئه، في محطات عديدة، لكن لم تسلم روحه من مواجهة الحقيقة، عندما استعمل الاستعمار الذي اختفى ظاهريًا من الصورة، فقد ظل محتفظًا بهيمنته وبنفوذه، كمحرك للعرائس من بعيد. لتكون الأزمة التي أبرزتها الرواية هي أزمة شاملة لنظام اجتماعي قائم على صيغة (انهب، ودع غيرك ينهب) وقائم على أن أي صوت معارض “سوف يهدد بتدمير وسقوط المنزل برمته”، وأن المعيار الأساس فيه لدى الحكام هو بالدرجة الأولى “الولاء”.
لقد قدمت رواية سوينكا صورة للمجتمع النيجيري المعاصر، حيث يتحول الفساد إلى درجة قصوى من العنف، يفرضه تحالف أصحاب المصالح الاقتصادية والعسكر، وهو تحالف يؤدي إلى القضاء على كل مظاهر الحياة في البلاد، وهكذا يتحول المجتمع إلى عالم من الإحباط والجنون والعنف، الإنسان فيه مستغِل ومستغَل، ظالم ومظلوم، ممتِهن وممتَهن، قاتل ومقتول، وغائب في كل الأحيان عن وعيه.
محمد طه العثمان
[sociallocker]
جيرون