جرمانا العظيمة
8 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
أول الطريق ترقبك لوحة حديدية بعينيها البيضاء، تبعثرتْ فوقها بخط حديدي جملة: “مخيم جرمانا الفلسطيني يرحب بكم”. وبالقرب منها نزَّ صَدَأ من لافتة أخرى، خرجت منها أيادي المتسولين، وإطارات درّاجات هوائية معطوبة، أكمام ألبسة مستعملة معلقة في الهواء.
وسط هذه اللوحة، كان حنظلة يدير ظهره للعرس المزدحم أمام عتبة البيت، حاملًا الأمنيات في زواريب المخيم على ظهره صوب البحر.. علم فلسطين يستر نافذة الطابق الأول المكسورة.
تحبُّ القضية أن تكتب عن نفسها، عاشت على السلاح والحمام وسنابل القمح، وها هم يفتحون يد المخيم ويعطونه سلاحًا وبزة عسكرية وزقاقًا، أحدهم أحضر عصفوره الدوري داخل قفص صغير، ووقف بانضباط، خلفه كانت تظهر الحروف الأولى لأنشودة اسمها: “عائدون”.
تاريخيًا، يقال إن اسم (جرمانا) سرياني الأصل، ومعناه العظيم أو العظمى، وهو آرامي الأصل أيضًا، ويعني الأقوياء من الرجال. في اللغة العربية، في (الصحاح) و(لسان العرب)، تحوّل لفظ (جرمانا) إلى فعل جَرَم بمعنى: قطع، أو شعر بالذنب، هذه ليست مصادفة.
كنتُ سهلًا فواحًا تزرعني الأسرار ويقطفني العشاق، تقول الأرصفة. وكان برَدى يقيم على أطرافها، قبل أن يجف ويقتل، تقول العصافير. أما أهلي فكانوا يسكنون شارع بغداد، لا أنسى الرحلات الجميلة إلى جرمانا أول الربيع، والبحث عن أكبر شجرة مشمش كي نجلس في ظلها، تقول جارتي.
ذاكرتي تتشمّس وتأخذ صورةً لأمي قرب نهر وشجرة رمان.
في الحافلة، الجميع منهك وضجر، ولا مزاج لأحد هنا كي يتخيّل نفسه، في خمسينيات القرن الماضي، يركب عربةً يجرّها حصانان ويغني: “بيلبقلك شك الألماس”.
قاطع الحاجز العسكري بهجة موكب السيران العائلي في خيالي.
في محلّ الخضر، يحلل البائع ضربة الكيماوي والهجوم الليلي المباغت، يبدو كما لو كان يكلم صناديق البطاطا أمامه، يضرب كفًا بكفٍّ، ويفتح كيس نايلون أسود بسرعة، ويمدّه لامرأة تحدق في أكوام الحشائش فوق الرفوف.. رجل أربعيني يرتدي نظارة سميكة يؤيده بصمت ويطلب الفاتورة مستعجلًا.. عجوز تحمل سطل لبن بيدها تتدخل في اللحظة الأخيرة: “قديش كيلو الكوسا اليوم”؟
الماء الراكد أخذ يتحرك، صائبًا كان أم خاطئًا، بطيئًا أم سريعًا لا يهمّ، فمنذ أن شاهد بأم عينه مسامير القذيفة عالقة فوق أجساد الآخرين، منذ أن سمع هدير طائرة حربية أول الفجر؛ صار يفور ويتدفق صوب الحقيقة أو الزيف، لا يهم أيضًا، المهم أن جناحًا نبت تحت إبطيه، وبوسعه الطيران خارج ذاته وأفكاره الواحدة، بوسعه أن يصير نبعًا.
يعلو باب المؤسسة الاستهلاكية لوحة سوداء.
موائد الناس في الأمس تتكوم خارج الحاويات وتطمر المفارق، وبعضًا من واجهات المحلات، تتجمع القطط السمينة حول القمامة متصارعًة حول كيس شفاف كبير، الفقراء يركلون القطط ودرّاجاتهم جانبًا، وينبشون بحثًا عن علب الزجاج والبلاستيك والمعدن، المجانين ينبشون القمامة، ولا يبحثون عن أي شيء.
أضع هذه الصورة تحت المجهر، وأنبش دمها بقلم رصاص.
زينوا ساحة الرئيس بلوحة كبيرة، وضعوا في جوفها أضواء نيون، لتنير وجوه من مضوا في تفجيرات جرمانا. صارت الساحة معلمًا وطنيًّا للاحتفالات والأحزان والأفراح والهتافات. داخل اللوحة المضيئة، يظهر وجه فتاة في العشرينيات من عمرها، تعلو فمها نتف ابتسامة. على الطرف المقابل، تطلُّ حلويات “نفيسة”، يصعد الناس درجة درجتين، يطلبون صحن المدلوقة أو النابلسية الساخنة، يأكلون بنَهمٍ محدقين في وجوه الموتى داخل اللوحة المضيئة. انظروا لا فرق بيننا وبينكم، أنتم داخل لوحة ونحن أيضًا.
يلصقُ صاحب محل الألبسة الداخلية وتجهيزات العرائس و”إكسسورات” الزواج الحمراء، ورقًة على بابه، في فمه سيجارة تنفض رمادها أرضًا: “مطلوب موظفة تعمل بدوام نهاري”، وبين قوسين تتمدد، ناعمةً خجولةً، كلمة: “محجبة”.
يقف سوريٌّ وفلسطينيّ يتناوبان الحديث عن (إسرائيل)، وحيّ الحمصي، وسمير القنطار: “يا زلمي (إسرائيل) شايفة النملة عنا كيف عم دبّ”، يتهامسان قليلًا ريثما يفتح الفرن العراقيّ تنوّره أول الصباح.
جرمانا العظيمة تبدأ بمخيم، وتنتهي بمكان يطلقون عليه اسم “التربة”، وتعني المقبرة، لا أشجار هنا تفصل بين موتين، ولا نهر يقود العابرين إلى مرآتهم. في الوسط ينتصب تمثال مبتور وآرمات مطفأة وسيوف رمادية، المتسولون يمدون أياديهم جيئةً وذهابًا، محركين دليل الجريمة المتجمد. صرختُ من الدهشة، وأنا أحدد الطريق إلى بيتي على موقع (غوغل إيرث)، ما أجمل هذه القصيدة.
أرمي إصبعًا فوق طريق المطار، أغلق فمي على خريطة فلسطين المرسومة أول المخيم، يسقط رمش من جفني، ويتبع قطط الزقاق، أثبّت بصمة سبّابتي عند مشفى جرمانا الجراحي، لقد وصلتُ أخيرًا، أُكبّر الخريطة وأصغرّها على شاشة هاتفي المحمول، بلا فائدة، أبدأ المشي من جديد بلا فائدة، أبعث برسالة إلى (غوغل إيرث)، أسأله عن بيتي، الذي كان يقع هنا قبل الحرب، وراء المشفى تحديدًا.
سوزان علي
[sociallocker]
جيرون