محاولات روسية لهندسة مختلفة للتسوية السورية



إلى أين تتوجه روسيا بالملف السوري؟ وما هي ملامح التسوية التي تريدها للأزمة هناك؟ وإلى ماذا تستند في خطواتها لإعادة صياغة مشروع الحل في سورية؟ ثم، بصفتها القوة الرئيسة في الميدان، واللاعب المؤثر في توازنات القوى على الساحة، ما هو الهدف من محاولاتها رسم مسار موازٍ– وبديل محتمل– لمسار جنيف، انطلاقاً من آستانة وتتويجاً في سوتشي؟ وأخيراً، هل يمكن أن تنجح في محاولاتها تلك؟
هذه التساؤلات، وغيرها، تثور في مواجهة سياسة الخطوات التراكمية التي تتبعها روسيا، في تثبيت امتلاكها الملف السوري، ومحاولاتها إعادة صياغة مشروع الحل، ورؤيتها لتسوية الأزمة الناشبة منذ أكثر من ست سنوات. صحيح أن روسيا لا تمسك بالأوراق كافة في سورية، ولا يمكنها فرض إرادتها وحدها من دون مُشاركة اللاعبين الخارجيين، إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، أنها تتطلع إلى هندسة الحل السياسي، في شكل يحقق المعادلة التي تسعى إلى فرضها على الساحة هناك.
إنها المعادلة التي تتلخص ملامحها في مقولة «سورية المفيدة»، التي أشار إليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في تحيته للقوات السورية بعد تقدمها إلى دير الزور؛ ما يؤشر، عبر دلالات كلمة «مُفيدة»، إلى أن الوجود الروسي في سورية غدا نقطة ارتكاز رئيسة في السياسة الروسية إقليمياً ودولياً. وهو ما يعني أن ملامح المعادلة الروسية تستهدف تغيير مواقع الخصوم والأصدقاء، في شكل تُصبح معه هذه الأطراف «أصحاب مصالح»؛ ليس، فقط، لمقايضة ذلك بتخفيف الضغط الدولي عليها، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها؛ ولكن، أيضاً، لاستعادة دورها كقطب موازٍ للقطب الأميركي عالمياً، وانتزاع قبول الأخير بها كدولة عظمى شريكة في إدارة الملفات الإقليمية والدولية.
هي تحتاج إلى تسوية سياسية تسمح لها بتعزيز وجودها العسكري في سورية، عبر قواعدها «الخمس»، وترسيخ دورها الجغراسي، الجديد كقوة رئيسة في الشرق الأوسط، على قدم المساواة مع الولايات المتحدة الأميركية؛ من منظور أن الوجود والانتشار العسكري هو الأساس لتعزيز الدور السياسي. ولعل مما له دلالة، في هذا الإطار، هو التفاوض الذي تجريه مع كل من مصر والسودان، في شأن إقامة قاعدة عسكرية في الأخيرة، وتسهيلات عسكرية في الأولى.
وهي، في هذا الإطار، لا تنتظر من السوريين، نظاماً ومعارضة، موافقات مُعلنة على ما ترسمه من سياسات، بمقدار ما تُريد التأكيد للجميع أن الأزمة السورية ما هي إلا أزمة صراع على السلطة، بين نظام ومعارضة. ومن ثم، يمكن تفهم دوافع المسارات الجانبية التي تختلقها روسيا؛ إذ إنها تأتي في سياق استهدافها خلط الأوراق الدولية، والإقليمية، ومحاولة انتزاع صفة «الشرعية» عن القرارات ذات الصلة بالأزمة السورية، بدءاً من بيان جنيف 1، ووصولاً إلى القرارين 2118 و2254.
في هذا الإطار، أيضاً، لا تنتظر روسيا من الولايات المتحدة الأميركية التوافق الكامل معها، حول الأزمة في سورية؛ بل، وهذا هو المثير للانتباه والملاحظة، تدفع في اتجاه توافقات جزئية، تتفهم واشنطن البعض منها، حتى تلك التي لا تستطيع واشنطن، أو حليفتها الإستراتيجية إسرائيل، أن تصرف النظر عنها، لاسيما التي تتعلق بوجود القوات الإيرانية، وقوات حزب الله، القريبة قليلاً أو بعيداً مِن الجولان، ناهيك بـ «القاعدة العسكرية» الإيرانية قرب مدينة السخنة جنوب دمشق، والتي نشرت صوراً لها قناة «بي بي سي» البريطانية. هذا، فضلاً عن استطاعتها أن تضم أنقرة إليها، كحليف مُساند، ومُساعد، في اختلافاتها مع واشنطن، التي تراها تركيا حليفة لخصومها المحليين. وبالتالي، توافرت لروسيا ركيزتان، على طرفي نقيض، واحدة تدعم النظام، والأخرى تدعم المُعارضة وتستضيف أهم قياداتها المسلحة.
ثم، هي، في هذا الإطار، أخيراً، تحاول استخدام منتدى سوتشي، الذي اتفق عليه قادة روسيا وتركيا وإيران، في قمة ثلاثية – تُذكرنا بمؤتمر يالطا، عام 1945، لتقسيم مناطق النفوذ في أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية – لـ «ترويض» المعارضة السورية المسلحة، ودفع المعارضة السياسية بأطيافها المختلفة، إلى الاصطفاف في كيان واحد للتفاوض مع النظام. وهي «فكرة» لا يبدو أن الدول العربية المعنية تختلف معها. ولا يخفى هنا الزيارة الخاطفة للأسد قبل هذه القمة، ودلالات هذه الزيارة، في الاتفاقات التي تم إبرامها بين الدول الثلاث بخصوص ملامح تسوية الأزمة في سورية. إن جولات التفاوض المُقبلة، في مسارات جنيف وآستانة وسوتشي، لن تنتهي إلى صياغة تسوية للأزمة السورية، بمقدار ما سترسم ملامح هذه الصياغة، على أساس مصالح الدول المنخرطة في الصراع، والراعية له. ولعل هذا، تحديداً، هو الدافع الرئيس لمحاولات روسيا تغيير مواقع أطراف الصراع الدولية والإقليمية، من أعداء إلى حلفاء وبالعكس.
وفي نظرنا، فإن احتمالات النجاح الروسي في هندسة التسوية، تبدو ماثلة في الآفاق، خصوصاً إذا لاحظنا الارتباك الأميركي بين العزوف عن الانخراط جدياً في أداء دور أكثر فاعلية لتسوية الأزمة، وبين عدم إمكان الإدارة الأميركية الحالية المُجازفة بالخروج من بلاد الشام، والمنطقة العربية عموماً، وبين صعوبة التسليم لروسيا – وشريكيها – في رسم خريطة «الشرق الأوسط الجديد».

(*) كاتب مصري


الحياة


المصدر
جيرون