(جنود الله) سقوط الثقافة ومسؤوليتها



في روايته (جنود الله) الصادرة 2010 عن دار الريس، في 455 صفحة من القطع المتوسط، يضع الروائي المعروف فواز حداد يدَه على مفارقة عصرية مهمة، شكلت محور فلسفة روايته وحوارها الأساس، وبخبرة الروائي العريق، قدّم لنا معرفة ثمينة، كشفت عن ظاهرة من أخطر الظواهر السياسية الاجتماعية المعاصرة، وتتمثل بنمو وحش الإرهاب الإسلامي، الذي هو في المحصلة النهائية منتج ثقافي، نما وتطور في أوساط الجيل الشاب، تحت إشراف ورعاية مشرفين دوليين، استفادوا من فراغ الساحة من الأيديولوجيات، التي تناطحت زمانًا، ثمّ أفلست تباعًا، ليتمّ بعدها -وأحيانًا عبرها- استلاب كامل للوعي الشبابي، وتأهيله سايكلوجيًا ومعتقدًا، للاستغراق في هلاميات غيبية، تتغذى على وعي بدائي (غريزي انفعالي) ومن ثمّ، ليصبح العديد من شباب جيل ما بعد العولمة أهم أدواته ومسيريه وقرابينه، في آن واحد، وذلك حسب ما تجلّى في تفكير الكاتب وفي خياله وقواه النفسية كلها، لذا رأيناه ممثلًا براوٍ ( محمد) (ملزوزًا) محرجًا، يطرح أسئلة الحاضر الإشكالي المأزوم، باعتبار أن هذه الأسئلة، مبضع جراح استكشافي، لا بدّ منه للوصول إلى تشخيص العلة ومتابعتها بقصد الاهتداء إلى علاجها، حيث العلاج بالثقافة هو علاج من جنس الداء، يقدم فيه الكاتب رؤيته الخاصة، لتحديات الثقافة المعاصرة والمثقفين المعاصرين، بعد أن تباهوا وادّعوا زمنًا، أنهم وحدهم يملكون الأجوبة العلمية والأخلاقية، وفق قوانين التطور الكلية المطلقة، وتبعًا لذلك، جاء اصطفافهم إلى جانب صورة للعدالة والحرية المفترضتين، قادتهم إلى الدخول في حرب النظامين المتصارعين (الباردة)، والمتنافسين في التقدم والإنتاج ووسائل الدمار، بل في جملة القيم والأخلاقيات التي يعد كل منهما المجتمعات البشرية بخيرها العميم.

لا أنوي أن أكتب تحليلًا نقديًا متكاملًا، بل سأكتفي بالوقوف على محور الرواية الرئيسي المتضمن لغاياتها ومقاصدها، وقد جسدَتها سردية الكاتب الروائية، ليكون بطله الافتراضي (محمد) أبعد وأعمق من مجرد إسقاط ثقافي، يرمز إلى وعي جيل، أفلتته الأيديولوجيا الماركسية والأحزاب الشيوعية، وقد ترهلت وفرغت، فبان جوفها الخاوي المريع، بعد أن كانت تشكل أكبر حالة استقطاب أيديولوجي سياسي، لجيل آمن بالعدالة والاشتراكية والطبقة العاملة، وحين كشفت البروستريكا والغلاكنست ستر هذه الأيديولوجيا المتخشبة والملفقة، وعيوب نخبها البيروقراطية المتسلطة باسمها؛ اصطدمت الرؤوس بجدار المفقودات الكبرى (الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان)، وسقط أنصارها ومراهنوها في فراغ من العقم، وفقدان المثل وضياع البوصلة، وراعهم أنهم لم يعودوا منظرين وقادة فكر قادرين على الدفاع عن قيم، روّج لها ولصورته النضالية التطهرية المتقشفة والمشحونة بالوعود الخلبية، فارتكس الوعي، وارتد شعورًا بالخيبة والفشل والإحباط، وانتزعت يد التاريخ الأدوار من مبشريه وقادته وتابعيه.

وكان مما عمق أزمة النخب الثقافية في بلادنا، وبشكل إضافي عن مثقفي الغرب الديمقراطي، توافقُ هذا السقوط المدوي لمثله الاشتراكي، بأعظم نجاح وأقوى فورة، تحققها الإمبريالية العالمية، بعد أن راحت قيم العولمة، تكتسح ثقافة العالم المتخلف وتتحداه، سواء في مجال الاتصالات أو في ثورة المعرفة، بينما ظلت هي ترزح تحت ثقل ثقافة نضالية تقليدية متقشفة قليلة الجدوى، حتى بان للجميع عرجها وعماها وتخبطها وقلة حيلتها، ومن ثم استسلامها كدول وكنخب أمام الوافد المنتصر، والكل بات مقتنعًا أنه لم يعد كفرد ولا كنخب مثقفة ولا كأحزاب، ممن يحملون مفاتيح العصر وقادته، بل أدركوا أنهم أول ضحاياه وأرخصها، ولكنها، على عيوبها، ظلّت مطالبة بأن تتوافق مع الوعي الجديد والثقافة وقيم العصر المستحدثة، ليس لكونها الأقرب إلى أخلاقه ووعيه، بل لأنّها ضريبة هذا الدخول، وحينما اخترقت هذه الظواهر الغربية حتى بنيته الأخلاقية، وهتكت وعيه ومجمل ظروف عيشه؛ عادت تطرح عليه المواجهة باعتبارها تحديًا، لا بدّ منه، بعد أن سلبته ابنه الوحيد، وصار هذا الابن (الجيل) في موقع العداوة الأخطر لأبيه، ليس بمعنى صراع الأجيال، بل في صراع الثقافات، بين ثقافة صاعدة بقوة المثل المستقى من وعي سلفي جهاي مسلح، وثقافة ادعت العلمية والتحكم بجدل التاريخ ومساره، لكنها تهتكت وتخلّى عنها روادها، وبات الصراع بينهما امتدادًا لصراع الحضارات، أو إحدى استطالاته الخطرة.

هنا تكمن أهمية الرواية باعتبارها رسالة الكاتب، وحصيلة ثقافته ووعيه بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، بالدرجة الأولى، وهي تعدل مسؤولية الأب عن حماية أولاده، بشمول مفهوم الحماية أو بانصرافه، إلى الحماية الثقافية للجيل وتحصينه من الانزلاق في ورطة العصر مع الإرهاب، وقد تمركزت بؤرته الأخطر في العراق بعد الغزو الأميركي، بعد أفغانستان، وصار وقوده أبناءنا الذين تجلببوا بجلباب القيم الدينية المدعاة، بعد أن فرغت يداه من أي ثقافة أخرى، تحصّنه من اختراق الثقافات الدينية الجهادية الرائجة، ووجد في نسختها المتجددة تفريغًا لوعيه المشحون بالانفعال وردّة الفعل والكراهية، وفي إطار تأكيد الذات، وجد في تلك الثقافة الدينية وجباته الجاهزة أو عُمل على تجهيزها، من موائد التاريخ القصي، ملبية وعيه الغريزي البدائي، وبما أنه لا يمكن لأحد استعادة التاريخ، إلا بصوة أكثر مأسوية؛ كانت المأساة!

لقد وجد (محمد) الشخصية الافتراضية الرئيسية، التي تنوب عن الكاتب، فتتحدث بضمير المتكلم، وتدعي أبوتها لسامر، كابن افتراضي وحيد، استقطبه المجاهدون إلى بغداد، لمحاربة الأميركي، وفي هذا السرد بضمير المتكلم، وبنسبة الابن الضال إلى أبيه الماركسي الشيوعي سابقًا، واللامنتمي لاحقًا، تكمن مسؤولية ثقافة الأب النخبوية عن اختراق هذه الثقافة الهجينة  وإسقاطها، والكاتب يؤكد هذه المسؤولية، ويرفض أن يتبرأ جيل الثقافة اليسارية المهزومة من مسؤوليته الأخلاقية والتربوية، أو أن يتنحى عن المواجهة مع هؤلاء الأبناء، لحمايتهم من أنفسهم، ولحماية مجتمعاتهم منهم، لذا كان تطوّع الأب للتفتيش عن ابنه وإنقاذه واضطراره إلى الدخول، في علاقات سرية مع رجال أمن سوريين وعراقيين وأميركيين، في سبيل الوصول إلى ابنه لمنعه من مغادرة الأراضي السورية أولًا، ثم لإعادته من الأراضي العراقية ثانيًا، ولذا كانت دعوة الكاتب للجيل اليساري وجيل الآباء عامة، كي يتحملوا المسؤولية في المواجهة، ولو كانت مكلفة وخطيرة، وهنا في خيار المواجهة هذا، تتجلى أخلاقية الكاتب وثقافته، ومن أجله هجر الحبيبة والحب، ولاب في التفتيش والأسئلة، وهو السبب الكامن خلف عدم رغبته في ولادة جديدة، من حبيبته سناء المنتظرة في سورية عودته من مغامرته في عراق الموت والدمار.

نعم، إنّ الكاتب يحمّل تلك الثقافة الفاشلة ومثقفيها مسؤوليةَ تحصين مجتمعاتهم من شرورها. هذه رسالة الكاتب الثقافية والمعرفية والأخلاقية، وهو يؤكدها، بقوله: “إنني المسؤول عن كل ما فعله سامر وما سيفعله، لقد أخذوه مني وأنا سأسترده، لن أنكر أبوتي له، وأقابل عقوقه بالجحود”. ص 299.

ومن الأبوة الفيزيولوجية، وهي المدار الحامل للسردية، إلى الأبوة الثقافية والمعنوية، تبدو رواية (جنود الله) لفواز حداد ممهدة لروايات سورية جديدة، تدخل عوالم الإرهاب مكملة لها، ولرواية خالد خليفة (مديح الكراهية)، إذ إنّ الروايتين، من مدخلين مختلفين، تعالجان الموضوع ذاته، وإن بدخولات مختلفة، أما الرسالة والغاية عندهما، فهي في المواجهة الثقافية لظاهرة الإرهاب، التي باتت تشكل خطرًا وجوديًا وثقافيًا على الفرد والمجتمع.


جبر الشوفي


المصدر
جيرون