من خريف الجفاف إلى ربيع سورية – عامل إضافي

27 ديسمبر، 2017

في مسألة العنف المسلح في سورية، وأثره في البيئة، وفي سياق البحث عن خبرات ودراسات، تناولتُ هذا الموضوع في بلدان أخرى، وعثرت على كتابات تطرح قضية البيئة والحرب، ولكن بصورة مقلوبة. فالعديد من المشكلات البيئية، وخصوصًا الحادة منها، ليست نتاج الحروب فحسب، بل يمكن أن تكون عاملًا مساهمًا، إضافة إلى عوامل اجتماعية–اقتصادية، في تعظيم الاحتقان المجتمعي، والانتقال به إلى انفجار شعبي، قد يتحول إلى عنف مسلح في ظروف معينة.

في حالة سورية، هل كان الجفاف الذي ضرب البلاد، بدءًا من منتصف تسعينيات القرن الفائت، عاملًا إضافيًا في اندلاع الثورة عام 2011؟ وما الترابطات بين عوامل الجفاف والهجرة الريفية وتضخم العشوائيات السكنية من جهة، وبين السياسات الاقتصادية-الاجتماعية التي انتهجتها الحكومات السورية، خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة 2004-2010 وفي ظل نظام سياسي مغلق، يتبنى نهج السوق الاجتماعي؟

للإجابة عن سؤال العلاقة بين التغيرات المناخية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية، ودورها في التغيرات المجتمعية؛ طوّر مجموعة من الخبراء مخططًا لمسارات محتملة لنشوء الصراعات المسلحة، نتيجة التغيرات المناخية ([1]). يظهر في المخطط خمسة انعكاسات اجتماعية للتغيّر المناخي على الأقل، ويمكن اعتبار ازدياد الكوارث الطبيعية، وقلة الموارد، وخسارة الأراضي، عوامل وسيطة تحفز ظهور هذه الانعكاسات.

فقد يؤدي التدهور المستمر للموارد إلى البطالة وقلّة الأرزاق، وتراجع النشاط الاقتصادي؛ وهذه كلها تؤدي إلى تراجع الدخل الوطني. كما أن ازدياد المنافسة على الموارد المتبقية، ضمن المجتمعات المتنوعة، قد يجذب النخب الانتهازية؛ وقد يؤدي هذا الأمر إلى التشظي المجتمعي، وبشكل خاص على مستوى الهوية العرقية والدينية، ويجعل المجتمع أكثر قابلية للتطرف.

ومن شأن انخفاض الدخل الوطني أن يعوق توفير المنتجات والخدمات العامة؛ ويتسبب في اهتزاز الشرعية السياسية، وصعود نجم المعارضين. إضافة إلى ما سبق، فإن الظروف البيئية القاسية قد تجبر الناس على الهجرة بأعداد كبيرة؛ ما يؤدي إلى ازدياد الضغط البيئي على المناطق المضيفة، وازدياد احتمالات التطرف والأحقاد الدينية والطائفية.

تستطيع المجتمعات المتقدمة اقتصاديًا، والمستقرة سياسيًا، التعامل مع المتغيّرات البيئية والتكيّف معها، على عكس المجتمعات الأخرى التي تتهددها عوامل صراع أخرى مثل طبيعة المجتمع الشابة وغياب الحكم الرشيد، وارتفاع عدد السكان، وتباين عاداتهم، وعدم المساواة المجتمعية، والجوار السيئ، ووجود تاريخ سابق للعنف في المجتمع.

إن أي متابع للظروف البيئية والاقتصادية-الاجتماعية في سورية، خصوصًا في السنوات الخمس التي سبقت بداية الحراك الشعبي (آذار/ مارس 2011)، يمكنه أن يُسقط هذه الظروف على مخطط المسارات المحتملة لنشوء الصراعات المسلحة نتيجة التغير المناخي، ليصل إلى النتيجة الحتمية التي تشهدها سورية حاليًا.

فقد تعرّضت سورية، ابتداء من عام 2007، لأسوأ موجة جفاف، منذ خمسينيات القرن الماضي، وبلغ الجفاف ذروته في شتاء 2007-2008 حين تراجعت معدلات الهطول المطري عن معدلها السنوي بنسب كبرى. ونتيجة لذلك، تناقصت الموارد المائية السطحية والجوفية، ونشط هبوب العواصف الرملية، وارتفعت درجات الحرارة صيفًا بشكل كبير؛ ما تسبب في خسارة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية. وزاد الطين بلة، وضاعف من أثر الجفاف، سوءُ إدارة المياه، فمؤشر الاستدامة المائية في سورية بلغ 46 بالمئة عام 1997، ونضيف إلى ما سبق ارتفاع نصيب الزراعة من المياه، 87.5 بالمئة من المستهلك منها، في ظل استخدام تقنيات ري عفا عليها الزمن، حتى باتت سورية تُصنف، بحسب مؤشر (WSI)[2]، من البلدان التي تعاني من “شُح المياه”. حيث ينخفض نصيب الفرد فيها إلى أقل من (100 ليترًا/ يوم) مقارنة بالمتوسط العالمي (200 ليترًا)[3].

نضيف إلى مشكلات الجفاف وشح المياه، العاملَ الديموغرافي/ السكاني، حيث استمرت معدلات النمو بالارتفاع؛ ما أدى إلى تعمق في اختلال التوازن، بين إجمالي الطلب على المياه من جهة، والتزويد المتوفر من المياه العذبة، وما يعنيه ذلك من عقبات في تأمين احتياجات السكان إلى السلع المختلفة: الزراعية والصناعية، فضلًا عن ارتفاع حاجاتهم إلى المياه في قطاع الخدمات والاستعمالات المنزلية بشكل مضطرد، ما مثّل عبئًا كبيرًا على مصادر المياه المتاحة.

وقد كانت المناطق الشمالية والشرقية أكثر المناطق التي ضربها الجفاف في سورية، وهي التي تعتمد أساسًا على الزراعة، ولا سيما محافظة الحسكة ذات التركيبة الديموغرافية والإثنية المتنوعة، حيث أثر الجفاف على نحو 1.3 مليون شخص، من أصل 20.5 مليون شخص تعداد سكان سورية عام 2008. وأشارت تقديرات الحكومة السورية، وبعثة تقييم الاحتياجات الموفدة من الأمم المتحدة، إلى أن أكثر من 800 ألف شخص، ممن تأثروا بالجفاف، فقدوا معظم مصادر دخلهم، وهم يعيشون في ضنك شديد. وقد أدى الجفاف إلى هجرة ما بين 60-80 ألف عائلة من أراضيهم إلى ضواحي المدن الكبرى، وبخاصة دمشق وحلب، بعد أن فقدوا معظم أرزاقهم، وجميعهم تقريبًا أقاموا حول المدن، من دون منازل ثابتة، خلال الفترات الأولى التي تلت لجوءهم، ثم استقروا في تجمعات ضواحي دمشق. وهذا ما حذّر منه الكاتب ([4])، حينما رصد موجات بشرية كبرى من الريفيين الهاجرين، خلال السنوات الأخيرة التي سبقت الألفية الجديدة باتجاه عشوائيات ريف دمشق.

أدت هذه الأوضاع إلى الإضرار بأمن سورية الغذائي الذي كانت تفاخر به طوال سنوات. فإذا بالجفاف يضرب ثلاثة أرباع الأراضي المنتجة للقمح في سورية؛ ما جعل حصاد عام 2008 منخفضًا بمقدار 38 بالمئة، عن حصاد عام 2007.

عند هذه المرحلة، بدأت العوامل البيئية والسياسية والاجتماعية بالتفاعل في ما بينها. حيث ترافق الجفاف مع تراجع العوائد النفطية، وتحولت سورية منذ عام 2007 إلى مستورد صاف للمشتقات النفطية، بينما كانت أسعار النفط في أوج ارتفاعها. وقامت الحكومة، تحت غطاء التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، برفع الدعم عن أسعار الوقود، بهدف إعادة توزيع الدعم على الفئات الأكثر فقرًا، حسب التصريحات الرسمية، لكنها كانت تسعى فعليًا لتغطية العجز المالي المتصاعد، نتيجة استيراد المشتقات النفطية. وجاءت هذه السياسة بنتائج خطيرة للغاية؛ إذ زادت من ارتفاع الأسعار على المواطن البسيط نظرًا، إلى العلاقة الطردية بين أسعار المشتقات النفطية، وتكاليف النقل والإنتاج الزراعي والصناعي. ونتيجة لارتفاع تكاليف الإنتاج، فقدت الصناعة السورية الميزة التنافسية أمام البضائع المستوردة، وارتفعت معدلات البطالة إلى حدود غير مسبوقة.

مع تراجع الدخل الوطني، وضعف الإدارة؛ لم تعد الحكومة السورية قادرة على الإيفاء بواجباتها نحو المواطنين، فبدأت الأزمات بالظهور واحدة تلو الأخرى، وكان أولها صعوبة الحصول على الرغيف، ثم تفاقمت المشكلات مع أزمات المازوت والبنزين والغاز والسكن وارتفاع الأسعار عمومًا.

مع ظهور هذه الأزمات؛ نشطت الفئات الطفيلية/ الانتهازية في استغلال حاجات المواطنين المتزايدة، وانتشرت ظاهرة التهريب على نطاق واسع. ومع تفشي البطالة وانقطاع الأرزاق وارتفاع الأسعار؛ ازداد الفساد وتفاقمت الرشوة وأخذت الفوارق الطبقية بالتعمق، وازداد الإحساس بغياب العدالة الاجتماعية.

وبحسب جوشوا لانديز، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط ([5]) في جامعة أوكلاهوما، فإن الأسد “علم بالكارثة المائية التي تواجهها سورية، وكان يحاول معرفة كيف يمكن تغيير الأمر. ولكنه، كما حصل في العديد من المشكلات التي واجهتها سورية، فشل في التعامل مع المسألة؛ لأنها كانت تستلزم تكسير الكثير من البيض، أي تدمير العديد من النظم القائمة والتفكيك المحتمل لنظامه وسيطرته”.

[1]  الآثار البيئية للنزاع: سورية الجفاف والسنوات العجاف. مجلة البيئة والتنمية. آذار- نيسان. 2014 المجلد 19. العددين 192-193 ص 20- 35

[2] Water Stress Index

[3]  المعلولي، ريمون، الإدارة المستدامة للمياه المنزلية في سورية، جامعة دمشق، 2009 غير منشور.

[4] انظر: المعلولي، ريمون، خصائص الأسرة الريفية المهاجرة والمقيمة في تجمعات السكن العشوائي بدمشق وريف دمشق، جامعة دمشق، 1999

 [5] انظر مجلة البيئة والتنمية. آذار- نيسان. 2014: مرجع سابق.

ريمون المعلولي
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون