في عودة السوريين إلى الاشتغال في مجال “الهم العام”
31 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
[ad_1]
بعد فترة قحطٍ وحرمانٍ استمرت سنواتٍ طويلة؛ سنحت الفرصة لكثير من السوريين بالاشتغال الحر في المجال العام، والانشغال الفاعل في أعمالٍ سياسيةٍ أو ثقافيةٍ أو اقتصاديةٍ أو خدميةٍ أو تربويةٍ، لدى منظمات حكومية أو غير حكومية، ومؤسساتٍ خاصةٍ أو عامةٍ… إلخ. وعلى الرغم من أن العمل التطوعي في الشأن العام يعطي الانطباع، لصاحبه وللآخرين، بأن هذا الشخص يحاول أن يخدم فكرة أو قضية عامة ما، وأنه مستعدٌّ للتضحية بجزءٍ، على الأقل، من مصلحته الخاصة، لخدمة المصلحة العامة ومبادئها؛ فإن العمل التطوعي (وحتى المأجور) ترافق، في كثيرٍ من الأحيان، أو في بعضها على الأقل، ليس مع تحقيق مصلحةٍ خاصةٍ لهؤلاء الأشخاص فحسب، بل مع تغليبٍ لهذه المصلحة الخاصة على المصلحة العامة واستمرار الادعاء، في الوقت نفسه، بأن هذا العمل التطوعي أو المأجور يهدف، أساسًا أو بالدرجة الأولى، إلى تحقيق تلك المصلحة العامة. وأرى ضرورة الانتباه إلى هذه المسألة المهمة، ومراقبة سلوكنا وأفكارنا وأقوالنا، لكي نتجنب الوقوع في مفارقاتٍ، طريفةٍ ومؤسفة، في الوقت نفسه. وسأوضح، في ما يلي، حالةً نموذجيةً لتلك المفارقات.
هناك سوريون كُثُر عملوا، في بلاد اللجوء الأوروبية، بوصفهم متطوعين و/أو موظفين، في مؤسساتٍ حكوميةٍ أو غير حكوميةٍ تقوم بالتعامل مع اللاجئين و/أو مساعدتهم. وعلى الرغم من الطابع الإيجابي و/أو الخيري لهذا العمل، فإن اللاجئ (السوري) الذي يقوم بهذا العمل يحقق، في بعض الأحيان أو في كثيرٍ منها، بعض الفوائد المادية وغير المادية المهمة، حتى في حال كان عمله تطوُّعيًّا. وفي بعض الأحيان على الأقل، يكون لهذه الفوائد دورٌ حاسمٌ أو أساسيٌّ، في قيام هؤلاء الأشخاص بهذا العمل التطوعي أو المأجور. وعلى الرغم من ذلك، يحرص بعض هؤلاء الأشخاص على إظهار أنفسهم بمظهر المضحي بذاته، من أجل خدمة المصلحة العامة، ويصر بعضهم على إنكار وجود دوافع أو مصالح ذاتيةٍ لعملهم. ويمكن “هضم” هذه الحالة واستيعابها، طالما أن عمل هذا الشخص يخدم فعلًا المصلحة العامة التي يفترض به أن يخدمها. لكن المفارقة وربما المأساة تبلغ ذروتها، عندما يعمل شخصٌ ما في مجال مساعدة اللاجئين، وهو يحمل نظرة بالغة السلبية والسوء عنهم، في الوقت نفسه. وللأسف، ليس نادرًا أن تجد بين هؤلاء المتطوعين أو العاملين المأجورين، من يرى أن معظم هؤلاء اللاجئين (السوريين أو العرب أو المسلمين) جاهلون و/أو متخلفون و/أو متطرفون، وأنهم يستحقون كل أمر سلبيٍّ يحصل لهم، وأنهم غير جديرين بأيّ أمرٍ إيجابيٍّ يمكن أن يتحقق لهم. ففي هذه الحالة لا يبدو معقولًا أو مقبولًا، لا نظريًّا/ معرفيًّا، ولا عمليًّا/ أخلاقيًّا، أن يعبر شخصٌ ما عن احتقاره لغالبية أفراد شعبٍ أو جماعةٍ دينيةٍ أو ثقافيةٍ ما، أو نفوره الشديد منهم، وأن يعلن، في الوقت نفسه، أنه مهتمٌّ بأمر أفراد هذا الشعب أو تلك المجموعة، وأنه يعمل على صون كرامتهم وتحقيق مصالحهم.
ويبدو بالتأكيد أن من الأفضل لهذا الشعب أو المجموعة، أن “يحلَّ هؤلاء الأشخاص عن ظهورهم”، وربما كان من الأفضل، أحيانًا على الأقل، لهؤلاء الأشخاص أن يعيشوا في العالم الذي يناسبهم، بعيدًا من الادعاءات المنافقة بخدمة قضايا عامة، وهم، في الحقيقة، يستخدمونها مطيةً لتحقيق مصالحهم الشخصية، أكثر من كونهم يقوموا فعلًا بخدمتها. طبعًا من غير المستبعد أن يكون بعض هؤلاء الأشخاص موهومين إلى درجة أنهم لا يجدون تناقضًا، بين احتقارهم أفراد مجموعةٍ أو جماعةٍ ثقافيةٍ أو دينيةٍ أو قوميةٍ ما، من جهةٍ، وزعمهم أنهم يقومون بالسعي إلى مساعدتهم، من جهةٍ أخرى.
قيل في تبرير الحرب أو تقريظها إنها تظهر معادن “البشر” و/أو تخلق الظروف لبروز أفضل وأسوأ ما لديهم من قيم وممارسات. ومع التحفظ على فكرة امتلاك الإنسان (الفرد أو النوع) ﻟ “معدنٍ ثابتٍ” أو سماتٍ ثابتةٍ، فمن “الواضح” أن الأوضاع الاستثنائية التي عشناها، نحن -السوريين- في السنوات الماضية، قد أظهرت أو أبرزت بعض أسوأ وأحسن ما (يمكن أن يكون) لدينا، في الوقت نفسه.
من هذا “الأسوأ”، أذكر هنا النظرة العنصرية الشائعة، لدى عددٍ كبيرٍ نسبيًّا من السوريين، ليس تجاه الآخرين (الأفارقة و/أو الهنود مثلًا) فحسب، بل تجاه أنفسهم، بوصفهم أفرادًا أو جماعاتٍ أو مجتمعًا أو ثقافةً أو قوميةً أيضًا. إن ضعف الاحتكاك المباشر بالأجنبي وسكوت القوانين والدولة عمومًا عن المسألة وإهمالها الكبير في العملية التربوية، هي كلها أسبابٌ لانتشارٍ كبيرٍ نسبيًّا للنظرة العنصرية (ضد الأشخاص ذوي البشرة السوداء مثلًا) بيننا، نحن السوريين. وفي المقابل، ثمة عنصريةٌ ذاتيةٌ أو ضد الذات، وتتمثل في أن يحمل الشخص نظرةً دونيةً، تجاه نفسه و/أو المجموعة العرقية و/أو القومية و/أو الدينية أو الثقافية التي ينتمي إليها. ويمكن فهم هذه الحالة، من دون تفهمها أو قبولها، إذا أخذنا بالحسبان الأوضاع البائسة عمومًا لمجتمعاتنا وجماعاتنا وثقافتنا، في ظل حكم أنظمة ديكتاتوريةٍ بالغة السوء. وقد اختصر الصديق أحمد اليوسف الموقف الذي ينبغي اتخاذه من هذا الوضع، في قوله: “التخلف والفقر عيبان من عيوب المجتمع، لكنهما لا يبرران كره الفقير واحتقار المتخلفين، بل بالعكس، يحتمان تعاضدًا معهم، وكرهًا لمن تسبب بالفقر والتخلف، كحزب البعث مثلًا، قائد الدولة والمجتمع نحو التخلف والإفقار”.
على الرغم من كل ما سبق، لا ينبغي التقليل من الإيجابيات الهائلة التي اتسم بها كثيرٌ من السوريين خلال هذه المحنة الفظيعة التي تعرضنا لها جميعًا، بدرجاتٍ مختلفةٍ، في السنوات أو حتى العقود الأخيرة. وتتداخل هذه الإيجابيات مع أسباب الثورة ونتائجها ومعناها في الوقت نفسه؛ وسأقتصر هنا على ذكر إحدى هذه الإيجابيات.
فقد كثيرٌ من السوريين في السنوات الأخيرة أيَّ مصدرٍ للدخل، وأصبحوا بحاجةٍ ماسةٍ إلى المساعدة. وقد انبرى كثيرٌ من السوريين في الخارج والداخل إلى تقديم المساعدات للمحتاجين. وكانت هذه المساعدات -وما زالت- أحد أهم أشكال الدعم التي تلقاها ويتلقاه السوريون المحتاجون، في هذه الأزمة الاستثنائية في فظاعتها. وفي حديثي مع أحد أصدقاء الطفولة (هو أحد السوريين المهجرين من مناطقهم المحتلة من قبل ميليشيات “شيعية” و/أو “أبوجية” والمقيمين في مخيمات قرب إعزاز وتل رفعت)، طلبت منه أن يكون اهتمامه بعائلته وبأولاده الأربعة، وبتربيتهم وتلبية احتياجهم، أكبر من اهتمامه الدائم بالهم العام واستئناف العمل الثوري، وتنظيم لجان مختصة لتنسيق العمل الإنساني الإغاثي والخدمي والتربوي.. إلخ. وقد أجابني حينها، بما معناه: “الثورة أظهرت كم هو مهمٌّ أن نهتم بالشأن العام ونشارك فيه، حتى عندما نفكر في مصلحة أهلنا وأحبائنا وصالحهم؛ أما الاهتمام بأنفسنا وإهمال الهم العام، فلن يفضي إلا إلى تضررنا جميعًا من دون استثناء”. ما زال هذا الشخص، الفقير جدًّا ماليًّا والغني جدًّا أخلاقيًّا، يساعد في جمع التبرعات المالية، ويسهم فيها من موارده المحدودة جدًّا، لمساعدة النازحين الذين يعيشون ظروفًا مأسويةً في ما يسمى بـ “المخيمات العشوائية”، حيث لا تدفئة ولا مساعدات غذائية أو طبية (كافية)، ولا حتى خيمة أحيانًا.
لقد غابت ثقافة الأعمال التطوعية عن مجتمعنا، أو تم بالأحرى قمعها وتغييبها، إلى حدٍّ بعيد، في ظل وجود سلطة القهر والإكراه. ومع قيام الثورة، بدأت هذه الثقافة بالظهور والتجذر، لكنها استندت غالبًا إلى أخلاقيات الأفراد وأشكالٍ بسيطةٍ من التعاون المؤسساتي فيما بينهم. ومن المأمول أن يزداد تعمق هذه الثقافة في نفوسنا، ليس فقط لحاجتنا العملية المستمرة والماسة لها، في ظل استمرار معاناة كثيرٍ من السوريين (وغير السوريين)، بل أيضًا لأهمية أو ضرورة إغناء ثقافتنا عمومًا، بهذا البعد الإنساني والأخلاقي الراقي.
حسام الدين درويش
[ad_1]
[ad_2]
[sociallocker]
جيرون